بقلم: علد المحمود نور الدائم الكرنكي بعد انفصال السودان إلى دولتين، وإعلان قيام دولة جنوب السودان، ظلّت حكومة (الحركة الشعبية) في جوبا، تحتفظ بفرقتين عسكريتين من (الجيش الشعبي) في الشمال، هما الفرقة التاسعة والفرقة العاشرة اللتان ترابطان في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، بينما تتبعان في القيادة والتعليمات والتسليح والمرتبات للجيش الشعبي في جوبا. فرقتا الجيش الشعبي العسكريتان المرابطتان في جنوب النيل الأزرق وكردفان، هما اللتان أشعلتا نار الحرب في المنطقتين لضمّهما بقوَّة السلاح إلى الجنوب. في اتفاقية أديس أبابا في مارس 1972م، كان دمج (جيش) التمرد، وهو في حقيقته مليشيات قبلية، في الجيش النظامي الوطني (القوات المسلحة السودانية). كان من نتائج ذلك الدمج، أن أحد المندمجين (جون قرنق) قاد حركة تمرد جديدة، كان أول ضحاياها اتفاقية سلام 1972م. كان أيضاً من النتائج المحتملة لدمج مليشيات التمرد القبلية في الجيش الوطني النظامي، أن تتم هزيمة وطنية الجيش فتسثير جراثيم تفككه بالبواعث القبلية، فينهار كمؤسسة نظامية. في سوابق الحل السياسي للحروب الأهلية، ظلّ الإحتفاظ ب (جيش) التمرد سبباً في إعاقة السَّلام. كان ذلك مثال الوضع في أنجولا (دولة نفطية). حيث ظل عامل الإحتفاظ ب (جيش) التمرد عقبة ضخمة أمام السلام. في سابقة الحلّ السياسي في ليبيريا، ظلّ احتفاظ شارلس تايلور بقواته إعاقة كبرى لعملية السلام، مما دمّر السلام في ليبيريا. ولم تنعم ليبيريا بالسلام إلا عند إزاحة تايلور ومليشياته عن المشهد السياسي. في حالة الجيش الجمهوري السرّي الآيرلندي، ظل موقف الحكومة البريطانية أن يتم تسليم السلاح من طرف المتمردين، وأن تتم ممارسة العمل السياسي من خلال حزب. ويعكس ذلك حزب (شين فين) بزعامة جيري آدامز. لكن (الحركة الشعبية لتحرير السودان) عند اتفاقية السلام، احتفظت ب (الجيش الشعبي)، ولم تتحوَّل من ناحية إلى حزب سياسي، ولم تسلِّم مليشياتها السلاح أو تنضم إلى حزب الحركة الشعبية الذي لم يتم تكوينه أصلاً. في التجربة السودانية في حّل مشكلة الحرب الأهلية في الجنوب، ما تزال الحركة الشعبية بعد توقيع اتفاقية السلام حركة عسكرية بالدرجة الأولى. ولم تزل تمارس تنفيذ برنامجها في إقامة (السودان الجديد) بقوة السلاح في ذلك السياق قامت الحركة الشعبية أخيراً بفتح ثلاث جبهات قتال في المناطق الثلاث ضد الجيش السوداني. لقد حاولت الحركة الشعبية أن تلعب دوراً مزدوجاً، هو مزيج من دور جيري آدامز في آيرلندا ودور ساڤمبي في أنجولا. حيث خرجت الحركة الشعبية بعد اتفاقية السلام، وهي منظمة عسكرية تحاول أن تتمظهر تمظهراً سياسياً. في عملية سلام جنوب لبنان كان التعامل مع ما كان يُسمَّى ب جيش لبنان الجنوبي (الموالي لإسرائيل)، هو حَّل وتسريح الجيش. حيث اختار البعض العيش في لبنان، وفضَّل البعض الإقامة في فرنسا أو غيرها من الدول الغربية، وغادر البعض إلى إسرائيل. عدم تطبيق أنموذج سلام جنوب لبنان في اتفاقية سلام نيفاشا، جعل إلاتفاقية تحمل في ثناياها جراثيم حرب أهلية، ظهرت معالمها أخيراً في (المناطق الثلاث) . ذلك بينما هناك تطابق كبير جَّداً بين جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حدَّاد والحركة الشعبية بقيادة جون قرنق ثم سلفاكير. التجارب الأفريقية والأوروبية في الحل السياسي للحروب الأهلية، أثبتت أنه لا يوجد منطق سياسي أو عسكري أو أمني في أن تحتفظ حركة تمرد وقعت اتفاقية سلام بكامل جيشها، وتظلّ كما كانت حركة عسكرية تحتفظ بكامل قواتها، بينما ترفض التحوّل إلى حزب سياسي حقيقي. ذلك فضلاً أن تصبح شريكاً رئيساً في الحكم حفلت شراكته بالمشاكسة العنيدة وسوء النيَّة . شريكاً يفصل الدولة إلى دولتين، ثمَّ الإنفصال يحتفظ بالفرق العسكرية التابعة لجيشه داخل أرض الدولة التي انفصل عنها. ذلك ما حدث في سابقة الحركة الشعبية في السودان. تلك سابقة لا يوجد مماثل لها في كل تجارب الحلّ السياسي للحروب الأهلية. لكن حكومة السودان قبلت بتلك السابقة الأولى من نوعها، حرصاً على إنهاء الحرب الأهلية، بل أطول الحروب الأهلية الأفريقية، وحرصاً على وقف نزيف الدماء، وحرصاً على تنمية السودان الذي أقعدته الحرب شمالاً وجنوباً. لكن الحركة الشعبية التي أثبتت أنها شريك سيء في السلام وشريك رديء في الحكم. حيث ظلت رغم اتفاقية السلام سادرة في ضلال تمردها لتفكيك السودان لحساب القوى الأجنبية، بإشعالها نيران الحرب في المناطق الثلاث. لكن على الحركة الشعبية أن تعلم يقيناً أنها ليست الجنوب، وأنها ليست مالكته حصرياً، وأن نيفاشا اتفاقية لم تُصمَّم ليلتزم بها السودان وحده. عليها أن تعلم أن حرصها الأيدويلوجي العسكري المريض على التمادي في إقامة (السودان الجديد) بقوة السلاح، سيدفع إلى ظهور استراتيجية سودانية جديدة، هي (استراتيجية جنوب بلا حركة شعبية). حيث يصبح ذلك هو الترياق المضاد والتطعيم الضروري لحفظ سلامة السودان شمالاً وجنوباً. بعد وضع تلك الإستراتيجية الجديدة موضع التنفيذ، مثلما أصبح لبنان (لبنان بلا جيش لبنان الجنوبي) وساد السلام ربوع لبنان، سيصبح جنوب السودان (جنوب بلا حركة شعبية)، ليسود السَّلام ربوع السودان، كلّ السودان. نقلا عن صحيفة الانتباهة السودانية 20/3/2012م