بصرف النظر عن أي اختراق حدث علي صعيد الخلاف السوداني الجنوبي والقضايا الخلافية، أو اختراق من المحتمل أن يحدث ولم يتبق للمهلة التي جددها مجلس الأمن إنجاز تسوية المسائل الخلافية بين البلدين بحلول الثاني من أغسطس المقبل وفق منطوق القرار (2046) الصادر في مطلع مايو المنصرم، وبصرف النظر عن كافة السيناريوهات والمآلات المحتملة لمستقبل البلدين وكيفية حلحلة قضاياهما، فإن من الضروري أن نرد طبيعة النزاع وجوهر الأزمة بين الدولتين الي أًصولها أو كما يقول علماء الأصول تحرير المسألة. أزمة جوباوالخرطوم في جوهرها أزمة أمنية بحتة. هنالك دولة نشأت جنوباً استناداً الي عملية استفتاء علي تقرير مصير متفق عليها بين الجانبين وفق اتفاقية نيفاشا 2005، وهنالك دولة أم انشطرت عنها الدولة الجنوبية الوليدة. الأمر الطبيعي في مثل هذه الحالات، أن يعمل كل طرف علي استكمال آثار ما جري لصالح التعايش السلمي وعلاقات حسن الجوار التي لا غني عنها أبداً لتسير كل دولة في الاتجاه الذي رسمته لنفسها. الأمر الطبيعي أيضاً أن تتكامل جهود الدولتين مهما بدا الأمر صعباً لتجاوز أية خلافات أو تناقضات في هذه المرحلة حتي يتم تجاوزها لترتيب علاقات جيدة تحتم كل فرضيات الوحدة السابقة ضرورة تطويرها وتنميتها لصالح الدولتين بالمراعاة الكاملة لمصالح شعبي البلدين. غير أن المفاجأة كانت أن الحكومة الجنوبية ومنذ الوهلة الأولي دخلت في نزاعات سافرة ضد الدولة الأم. صحيح أن هناك قضايا متعلقة بحدود كل دولة علي الرغم من وجود حدود (1956) والتي علي أساسها جري كل شئ. عملية السلام، الانتخابات العامة (ابريل 2010)، الاستفتاء علي تقرير المصير، الترتيبات الأمنية التي بموجبها تحت عمليات سحب متبادل لقوات الطرفين بحيث يعيد كل طرف نشر قواته علي أرضه وفي نطاق حدوده. وصحيح أيضاً أن هناك خلاف كان من الممكن أن يكون طبيعياً ومتوقعاً في كيفية تصدير النفط الجنوبي في ظل وجود أنابيبه والمصافي وكافة عمليات نقله في الدولة الأم. ولكن لم تكن مثل هذه القضايا- رغم كل ما فيها من تعقيد – لتصل الي درجة الصدام السياسي والعسكري ولهذا فان حقيقة الخلاف وطبيعة الأزمة في المواقع لم تكن علي هذا الصعيد، لقد كانت علي صعيد آخر مختلف تماماً، فالحكومة الجنوبية التي تسيطر عليها الحركة الشعبية تصر إصراراً غريباً غير مبرر علي التواجد – عسكرياً وسياسياً- داخل العمق السوداني تحت دعوي مساندة ناشطين سياسيين كانوا في يوم ما جزءاً من منظومتها في إطار السودان الموحد وقبل الانفصال. الحكومة الجنوبية لا تخفي دعمها هذا لهذه المجموعات التي كانت منتسبة إليها ولم تسع لفك ارتباطها بها حتي هذه اللحظة ولعل أبلغ دليل معروف لدي الكافة الصلة التنظيمية للفرقتين (9) و(10) في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بقيادة الجيش الشعبي الجنوبي في جوبا الي درجة وصول المهمات العسكرية والترقيات والمرتبات من جوبا لهذه المجموعات العسكرية المسلحة. لسنا هنا بصدد انتقاد الخرطوم في تعقيدها غير المبرر بشأن عدم حسم موضوع هاتين الفرقتين قبل إجراء الاستفتاء. المهم هذا الأمر بات الآن أمراً واقعاً ويمثل عقبة كأداء في مسار علاقة الدولتين. الحكومة الجنوبية تعمل علي العبث بأمن الدولة السودانية الأم في وضح النهار عبر دعم وتحريك مجموعات مسلحة تتبع لها مباشرة ضد الحكومة السودانية. هذه هي معضلة العلاقات السودانية الجنوبية. جوبا رغم فارق القوة الشاسع بينها وبين الخرطوم إلا أنهار رسمت لنفسها دوراً ورئيسياً لزعزعة الخرطوم وخلق توتر مستديم بين الجانبين. ربما كانت جوبا وبالنظر الي من يقفون خلفها وتسند هي ظهرها إليهم باطمئنان تراهن علي أنها قد تجنح في مسعاها، وربما كانت أيضاً مدفوعة بثارات قديمة وغبائن سياسية متراكمة جراء الحرب الأهلية الطويلة تود مرمغة أنف الخرطوم ولو قليلاً حتي تشفي غليلها، أو ربما كانت أيضاً تمارس دور الدولة الوظيفية وفق المصطلح المستحدث والتي تقوم بأداء أدوار ووظائف لدول عظمي أخري بالوكالة. كل ذلك وارد، ولكن ما لم تدركه جوبا حتي الآن أنها تقوم بما تقوم به دون أي مهارة الأمر الذي جعلها تفشل في أداء الدور بما يجنبها الآثار الجانبية فقد أوقفت ضخ النفط لتخنق الخرطوم اقتصادياً، ولكن كان الأثر المباشر سالباً علي الاثنين معاً بل باتت هي الأشد تأثراً والأقرب الي السقوط والانهيار، كما أنها خسرت العمق السوداني شعبياً وحزبياً بدرجات مختلفة حين بدت كعدو لا يستنكف عن إلحاق الأضرار بالجميع بغير مراعاة ودون أدني اكتراث. هذه هي أزمة جوبا مع الخرطوم، أزمة دولة حديثة النشأة ارتدت جلباباً فضفاضاً وخوذه أكبر من رأسها عشرات المرات وسيق لا تقوي علي حمله ووقفت – وبلا أسباب موضوعية – لمقارعة السودان ومنازلته عسكرياً.