مرة أخرى يأتي التذكير بان عالم اليوم لا ينتظر أحداً لدي وقوع أحداث أو تحولات أو تغييرات إلى حين استيعاب الصدمة أو المشهد يقصد المعالجة والتدبير والمراجعة، وفي إطار ذلك فأن الدولة أي دولة الآن تتحسب لكل طارئ أو أمر استثنائي خاصة في حالة تأثيره المباشر على سلامتها واستقرارها وأمنها، فهي أي الدولة لا تمارس شرف التصرف وإنما تمارس مسؤولية التفكير والعمل الصائب والاستباقي الذي يجعلها بمنأي عن الخطر من أي نوع. خذ نموذج الرحيل المفاجئ للرئيس الإثيوبي ملس زيناوي وغيابه عن المشهد السياسي الداخلي، وعلى الصعيد الثنائي (مع السودان بوجه خاص) وفي الاتحاد الإفريقي ومجموعة الإيقاد، ومجموعة إدارة الأزمات ومجموعة إطفاء الحرائق أو المعالجات لما سمي بالحلقات والقضايا العالقة بين السودان وحكومة جوبا الناشئة، وهو وحده، أي الرئيس الراحل ملس زيناوي امتلك المعرفة والخلفية للعلاقات بين السودان وقيادة الدولة الناشئة في الجنوب وكان يطلق تحذيراته لهم بعدم اللعب بالنار لأنها تحرق أصابعهم قبل غيرهم، وكذلك لابد من سيناريو وأسئلة ماذا يعني رحيل رجل دولة قوى ومتزن مثل ملس زيناوي على العلاقات السودانية – الإثيوبية بوجه عام باعتبارها محوراً استراتيجياً ثنائياً وإقليمياً؟ وماذا يعني غيابه بالنسبة لدوره في العلاقات مع دولة الجنوب التي تجنح للشطط والتجاوز وأحياناً الحرب والمعارك وصنع القرارات الحارقة من نوع وقف أو تجميد النفط وإغلاق أباره ومنع تصديره؟ وكيف ستتعامل إثيوبيا ما بعد رحيل ملس زيناوي مع اريتريا؟ وكيف ستكون الأوضاع في إثيوبيا وقد كان ملس زيناوي هو رجل الدولة القوى القادر على معالجة قضاياه في المناطق في إثيوبيا؟ ماذا سيحدث للانتشار العسكري الإثيوبي في أكثر من منطقة ومنها السودان، حيث تتواجد قوات إثيوبية بأزياء أممية في منطقة ابيي. كيف ستتعامل الخرطوم مع القيادة الجديدة في أديس أبابا؟ هل تتمسك القيادة الإثيوبية الجديدة بالسياسات التي أرساها ملس زيناوي أم أنها ستتغير؟ هل تحتاج إلى التذكير بالسوابق الخاصة بالرحيل المفاجئ للزعماء المؤثرين كما هو الحال بالنسبة لرحيل جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970م في مصر او كما هو الحال بالنسبة لاغتيال الرئيس السادات؟ أو حتى على المستوي السوداني لدي تصريح زعيم الحركة الشعبية ورئيس دولة الجنوب الدكتور جون قرنق في أغسطس 2005ك حيث عاصرنا مباشرة، ما فعله خليفته الفريق سلفاكير ومعاونوه من إعلان بالتمسك بسياسات ومبادئ جون قرنق ثم انقلبوا عليها تماماً وصنعوا من الوحدة الجاذبة (الانفصال العدائي والحرب والعدوان)، كيف يتعامل السودان مع إثيوبيا بعد رحيل ملس زيناوي؟ في مداخلة ضرورية وقبل تحديد ما هو مطلوب، لابد من التذكير بأن الخرطوم ظلت دائماً العنصر الفاعل في استقرار إثيوبيا، (ليس العكس) فعلي عهد الإمبراطور هيلاسيلاسي فأن الخرطوم كانت الملاذ الآمن للإمبراطور أبان الحرب العالمية الثانية في حقبة الأربعينات وكانت قوة دفاع السودان تحارب في هضبات إثيوبيا ضد القوات الفاشية الايطالية واستطاعت إجلاءهم عن الأراضي الإثيوبية وعاد الإمبراطور هيلاسيلاس إلى قصر الحكم في أديس أبابا، وعندما وقع أول انقلاب عسكري ضد الإمبراطور هيلاسلاسي أثناء زيارة له لدولة بأمريكا اللاتينية عام 1959م وأوشك الانقلاب على النجاح ولكن الخرطوم تدخلت باستقبال الإمبراطور هيلاسلاسي رسمياً في مطار الخرطوم واعدت له طائرة اقتله ومعه الصحافة السودانية حيث وصل إلى اسمرا ثم إلى أديس أبابا، وكانت هذه العودة وحدها إيذانا بفشل الانقلاب ودحره وعاد الإمبراطور غالى قصر الحكم وعاد الاستقرار إلى إثيوبيا، وعندما انفجرت قضية اريتريا في وجه الإمبراطور وأصبح لها صدى عالمياً فأنه لجأ إلى السودان لإيجاد مخرج، وكانت إجابة الخرطوم إن المخرج يتمثل في قرارات مجلس الأمن، أي إعطاء الشعب الاريتري حق تقرير المصير عبر استفتاء شعبي بإشراف الأممالمتحدة وقد لجأ أيضاً إلى السيد علي الميرغني باعتباره راعي طريقة الختمية الصوفية وإتباعها كثر في اريتريا ليتدخل ليث الاريتريين المتواجدين على الحدود وداخل شرق السودان بالعودة ولكن السيد علي الميرغني قال للإمبراطور هيلاسلاسي انه فات أوان الزمن الذي تحكم فيه الشعوب بالقهر وان الحكمة تقتضي أن يترك للاريتريين تصريف شؤونهم وقيام دولتهم، ان هذا القرار وحده الذي يسهل ويعيد الاريتريين إلى وطنهم ويحقق الاستقرار لإثيوبيا ولاريتريا ولقد عاد الإمبراطور وهو يفكر ملياً في هذه النصيحة ولكن انقلاب الجنرال منقستو هيلامريام، لم يمهله وقبلها أي قبل الإطاحة به فان السودان وحده الذي بادر بالاتصال بالدول الإفريقية وإقناعها بأن تكون أديس أبابا مقر لمنظمة الوحدة الإفريقية التي دشنت في 27 مايو 1963م، وليست لاغوس عاصمة نيجريا آنذاك، وقد أثار هذا الحراك جدلاً لدي الدول العربية (مصر والمغرب العربي) باعتبار أن نيجيريا مسلمة وإثيوبيا مسيحية وإنها أولي بالمقر ولكن السودان وحده فطن إلى ما يمثله تاريخ إثيوبيا في المنطقة إلى جانب جوارها للسودان وانه ومهما اختلفت الآراء حول الإمبراطور فان رمزيته لها وزن يصعب تجاهله، كما إن السودان وحده هو الذي اقنع الإمبراطور هيلاسلاسي بالوقوف ضد انفصال بيافرا في نيجيريا، وأطلعه أن السودان وافق على دعم القوات النيجرية لإعادة بيافرا وإعادة وحدة الأراضي النيجرية، والسودان أيضا وحده الذي اقنع الإمبراطور وإثيوبيا بالوقوف ضد وجود المرتزقة البض في إفريقيا، واستطاع رئيس السودان آنذاك إسماعيل الأزهري باعتباره رئيساً للجنة حكماء إفريقيا النجاح في مهمته أي ترحيل المرتزقة البيض من إفريقيا بطائرات أوربية وقد احتفل رؤساء إفريقيا في مايو 1969م (19-23 مايو) بتكريم الزعيم إسماعيل الأزهري في كنشاسا (الكونغو)، كان السودان دائماً مهماً بالنسبة لإثيوبيا وكذلك الحال بالنسبة لإثيوبيا فما من تغيير واستقرار الا وكان للسودان دور مباشر فيه، وتعرضت العلاقات الثنائية لهزات في فترة حكم الجنرال منقستو الذي فتح أراضي إثيوبيا ومخازن سلاحها للحركة الشعبية ومع ذلك جاء للسفارة السودانية يستعطفها إن تطلب من الخرطوم تسليم المعارضة الاريترية مقابل تسليمه لقيادات الحركة الشعبية. نقلاً عن صحيفة أخبار اليوم 3/9/2012م