أخطأ الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت خطأً إستراتيجياً كبيراً بعرضه التوسط بين ما يسمي بقطاع الشمال والحكومة السودانية؛ إذ علاوة على أنَّ التوقيت كان قاتلاً وقذائف القطاع تضرب النسوة والاطفال فى كادوقلي والسودان كله يتعبأ ضد الحرب وجرائم القطاع، فإن الحكومة الجنوبية نفسها لم تخضع بعد لإختبار الثقة فيما يخص إتفاقية التعاون المشترك بينها وبين الحكومة السودانية، ومن ثم لم تترسخ الطمأنينة اللازمة لكي تمنح الخرطوم كامل ثقتها لجوبا فى التوسط. بمعنى آخر يمكن القول ان العرض الجنوبي جاء مبكراً جداً، للدرجة التى تحول فيها من مجرد عرض سياسي (بحسن نية) الى عرض يثير علامات استفهام عديدة، ومن هنا جاء الخطأ الاستراتيجي الجنوبي فالأمر هنا لا يتعلق بعرض لحل مشكلة سودانية كما فعلت بلدان مجاورة أخري فى أزمات سابقة مثل تشاد فيما يخص الحركات المسلحة عام 2003م ومثل إرتريا فيما يخص أزمة الشرق فى العام 2007. الأمر هنا يتعلق بأمر مثير للريبة، إذ بدا وكأنّ جوبا أولاً: تحاول منح القطاع وزناً خاصاً وهو ما لا يملكه حقيقة لولا دعمها ورعايتها. ففي الوقت الذى بدأت الظروف السياسية ومخرجات اتفاقية التعاون المشترك تضع القطاع فى حجمه الطبيعي كأمر واقع، فإن جوبا تحاول إستنقاذ القطاع من هذا الوضع لتضرب عصفورين بحجر؛ تكسب ود القطاع كونها أحيته من بعد أن كاد أن يموت وتكسب أيضاً ود الحكومة السودانية كونها أسمهت فى حل مشكل سوداني داخلي. ثانياً: سبق لجوبا، قبل سنوات أن عرضت التوسط فى أزمة دارفور ورفضت الخرطوم ذلك، حدث هذا حتى قبل إنفصال جنوب السودان وبعده، وكانت الخرطوم فى كل مرة ترفض. وبالطبع لم تتغير الأمور من ناحية أسباب رفض الخرطوم وما كان لجوبا ان تغفل هذه الحقيقة وتعيد استثارة شكوك الخرطوم؛ ففي السياسة دائماً الدروس والعبر الماضية تظل تشكل عناصراً هامة فى تشكيل الحاضر. ثالثاً: من مقتضيات الوساطة – فى حدها الأدنى – أن يتمتع الوسيط بقدر من الاستقلالية عن المُتوسَط بينهما بحيث تكون المسافة التى يقف فيها بين الإثنين متساوية، ولا نحتاج لكبير عناء لقياس المسافة بين الحركة الشعبية الجنوبية وما يسمي بقطاع الشمال وذلك – ببساطة – لأنّه لا توجد أصلاً مسافة يمكن قياسها! رابعاً: لو كانت الحكومة الجنوبية جادة بالدرجة الكافية فى مسعاها فإن من السهل جداً أن (يكون كلامها مسموعاً) لدي القطاع ومن ثم ما عليها إلاّ أن تزجي له نصحاً مخلصاً بأن عليه أن يتدبر أمره، وأنها لم تعد قادرة على إيوئه وإرضاعه، فقد حانت ساعة الفطام. فشل جوبا فى إقناع القطاع بالتخلي عن الحرب والدخول فى مفاوضات بعيداً عن تدخلها ودعمها معناه بذات البساطة ان توسطها – ما دام كلامها غير مسموع لدي القطاع – لن يكون مجدياً! اللهم إلاّ إن كانت تحاول جلب مصلحة جديدة وفوق العادة للقطاع من خلال عملية التوسط. وعلى كلٍ، فإن الخطوة الجنوبية كما أسلفنا، وإن كان مقصدها –ظاهرياً– لا غبار عليه إلاّ أنها مثقلة بعلامات الاستفهام وأسوأ ما فيها أنها تستحضر الشكوك السودانية على مائدة الاتفاق وتثير الهواجس بإستمرار حيال ما إذا كانت جوبا جادة فعلاً رغم إنعدام خياراتها فى إنفاذ إتفاق التعاون المشترك دون تنغيص أو عرقلة أو تأخير. إن من المفروغ منه تماماً أن وضع قطاع الشمال بموجب الترتيبات الأمنية الواردة فى صلب الاتفاقية قد تحدد تماماً كأمر واقع لا مناص من مواجهته والتعامل معه. وإن كان فى هذه النقطة من مأخذ من جانب القطاع، فإن عليه أن يلقي باللوم بصفة مباشرة على أوائك الذين تبرعوا بإقحام التفاوض مع القطاع فى صلب القرار 2046 مع أنه قرار مخصص أصلاً للقضايا المتنازع عليها بين الخرطوموجوبا. كما أن جوبا إن أرادت تصحيح هذا الوضع فإن عليها ان تواجه القطاع بالحقيقة المجردة، إذ أنّ العلاقات الدولية ومصالح الدول في العادة لا يتم رهنها لعلاقات بين حكومة دولة ومجموعة سياسية كانت جزءاً منها وفرّقت بينهما الخيارات السياسية. فكما إختارت الحركة الشعبية بملء -إرادتها- من قبل، فصل إقليمها، فإن عليها أن تختار فصل الجزء الذى لم يعد جزءاً منها!