في الأول من إبريل/نيسان الجاري، أدلى الرئيس السوداني عمر حسن البشير بخطاب “تصالحي متفائل" أمام الدورة الجديدة للبرلمان السوداني، داعياً إلى توحيد القوى السياسية والعسكرية المتمردة على نظامه من “أجل مواجهة القضايا الوطنية وصياغة دستور جديد للبلاد"، مشيراً إلى أن اتصالات تجري لهذا الغرض، ومؤكداً “إننا سنمضي في الاتصالات مع القوى السياسية والاجتماعية كافة، دون عزل أو استثناء لأحد، بما في ذلك المجموعات التي تحمل السلاح" . وأضاف: “تأكيداً لذلك، فإننا نعلن قرارنا بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ونجدد التزامنا بتهيئة المناخ لكافة القوى السياسية لبدء حوار وطني شامل" . كان قرار البشير إطلاق سراح “جميع المعتقلين السياسيين" ودعوة “القوى السياسية والاجتماعية كافة، بما في ذلك المجموعات التي تحمل السلاح"، إلى بدء حوار وطني شامل “لتحقيق السلام الشامل والدائم في كل أنحاء بلادنا" مفاجأة حقيقية مهّد لها، قبله بأيام، نائبه علي عثمان طه، تكاد تكون غير قابلة للتصديق . ذلك أنّ الأوضاع وتصريحات المسؤولين في النظام خلال الشهور التي سبقت القرار، توحي بالتصعيد وليس بالانفراج . ففي أوائل شهر يناير/كانون الثاني الماضي، أي قبل ثلاثة أشهر من القرار الأخير، كانت أحزاب المعارضة المنخرطة في (تحالف المعارضة) وحركات التمرد العسكرية المنضوية تحت ما يسمى (الجبهة الثورية)، بقيادة الجبهة الشعبية - قطاع الشمال، قد اجتمعت في العاصمة الأوغندية كمبالا، ووقعت على وثيقة أطلقت عليها اسم “الفجر الجديد" . وفي الثامن من الشهر نفسه، شنت الحكومة السودانية هجوماً غير مسبوق على المعارضة واتهمتها بالخيانة والعمالة على خلفية هذه الوثيقة . ووصف مساعد الرئيس نافع علي نافع الوثيقة بأنها “فجر كاذب"، واعداً بأن يكون العام الحالي عام الحسم للقضاء على المتمردين، ومشيراً إلى أن المعارضة “حفرت لنفسها قبراً بتوقيع الوثيقة" . وكانت الأنباء قد أفادت بأن قوات الأمن السودانية اعتقلت عدداً من قادة المعارضة العائدين من كمبالا بعد توقيع تلك الوثيقة التي تبرأ منها حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه حسن الترابي، بينما دافع عنها الحزب الشيوعي السوداني، ورحب بها بتحفظ حزب الأمة الذي يتزعمه الصادق المهدي . والسؤال هنا: ما الذي غير موقف البشير ونظامه، حتى يدور حول نفسه مئة وثمانين درجة في ثلاثة أشهر؟ هل هي الوثيقة التي تعهد أصحابها بإسقاط النظام؟ هل هو الوضع الميداني، أو الضغوط الداخلية والخارجية، أو أن التطورات الجارية في المنطقة العربية نجحت في أن تغير في نظرة وتفكير البشير فأقدم على “الإعلان المفاجأة"؟ لقد مر على نظام “جبهة الإنقاذ" منذ 1989 وحتى اليوم ثلاثة وعشرون عاماً في السلطة، لم يقدم فيها للشعب السوداني إلا المزيد من النزاعات والحروب والتدهور على كل مستويات حياته . لقد فشل في إقامة “الدولة الإسلامية" التي قال إنه سيقيمها، وكان نجاحه الأبرز وربما الوحيد فقدانه ثلث السودان وكل ثروته الوطنية، بانفصال الجنوب الذي أدت سياساته إلى انفصاله . صحيح أنه كان هناك في الداخل والخارج من تآمر ولايزال يتآمر على السودان، لكن تلك المؤامرات لم تكن لتنجح لو استطاع البشير وجماعته أن يكسبوا ثقة الشعب ويقدموا ولو بعض الحلول للمشكلات الكثيرة التي كانت تمسك بخناقه، والتي أدى فشلهم في مواجهتها إلى أن تفاقم الوضع ويصل إلى تهديد وحدة الشمال بعد انفصال الجنوب . لقد لقيت “الخطوة" الأخيرة ترحيباً واسعاً من القوى السياسية السودانية المختلفة، وإن رحب بعضها بها بحذر، مطالباً بإتباعها بخطوات أخرى تؤكد جدية النظام في توجهه الجديد . وقد اعتبرها فاروق أبو عيسى، رئيس تحالف أحزاب المعارضة السودانية الذي يضم عشرين حزباً، أنها “خطوة في اتجاه حوار حقيقي"، داعياً إلى خطوات مماثلة في مجال إلغاء القوانين المقيدة لحريات الصحافة والعمل السياسي . كذلك رحب بها فاروق محمد إبراهيم، عضو المنظمة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات، وبدوره اعتبرها “خبراً ساراً" و"خطوة إلى الأمام" . وبحسب الأخير، فإن من بين من أعلن الإفراج عنهم “عدداً كبيراً من الذين اعتقلوا في جنوب كردفان والنيل الأزرق، بمن فيهم 811 عضواً في الحركة الشعبية - قطاع الشمال تتولى منظمته أمرهم . في الوقت نفسه، وصف حزب المؤتمر الشعبي قرار الإفراج عن المعتقلين بأنه “خطوة في الاتجاه الصحيح"، لكنه طالب بإجراء مزيد من الإصلاحات السياسية، وإباحة الحريات بشكل كاف لإجراء حوار وطني شامل . إذاً، لقيت الخطوة التي أعلنها البشير ترحيباً عاماً، لعلها المرة الأولى التي تلقى خطوة يقدم عليها هذا الترحيب، ما يذكّر بأن المشكلة كانت في مواقف وسياسات النظام ولم تكن في مواقف المعارضة، الأمر الذي يجب أن يقنع النظام ورئيسه بأن الطريقة الوحيدة لمقاربة مشكلات السودان وتوفير إمكان الوصول إلى حلول لها، ومن ثم أفضل طريقة لإنقاذ النظام السوداني نفسه هي تحقيق الوحدة الوطنية وعقد الحوار الوطني الحقيقي الذي يوفر الظروف للمقاربات الصحيحة، ومن ثم الحلول المقبولة التي تخدم الوطن والمواطن، وبالتالي النظام . لقد جرب الرئيس البشير لأكثر من عشرين سنة الانفراد بالحكم وعرف نتائجه السلبية، وأصبح من باب التعقل والحكمة أن يجرب المشاركة في الحكم، خصوصاً أنه بإجماع المعارضة استطاع أن يقدم على “الخطوة الأولى" في هذا الاتجاه . المصدر: الخليج الاماراتية 8/4/2013م