في المواقف الفاصلة يكون الموقف تلقائياً تجاه الحفاظ على الوطن وسلامة أهله، بلا حسابات ولا مزايدات. حدث ذلك لدي إعلان الاستقلال من داخل البرلمان مطلع يناير 1956م، وكانت الساحة السياسية مشحونة بالمنافسة الحزبية والتوتر والمزايدة. ومع ذلك تلاشت الخصومة والعداء بين السيدين علي الميرغني راعي الحركة الوطنية وطريقة الختمية وعبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار وحزب الأمة، وتلاقيا وتوافقا بعد خصام استمر لأكثر من نصف قرن، وتخلي الرئيس المنتخب إسماعيل الأزهري عن الحزب الوحدة أو الاتحاد مع مصر، وقد نال الأغلبية البرلمانية على أساس تحقيق وحدة شطري وادي النيل مقابل وحدة السودان شماله وجنوبه والسيادة الوطنية للسودان ووافق النواب بالإجماع ووقوفاً لصالح ووحدة وسيادة الوطن السودان. وفي التاريخ الحديث، مطلع أبريل 1985م، وفي اجتماع مصيري ونهائي بين التجمع الوطني والقوى التقليدية، الاتحادي الديمقراطي والأمة والشيوعي لإقرار الميثاق الوطني والترتيب لفترة ما بعد إقصاء النظام المايوي الشمولي انتابت (مجموعة الاكاديميين) نزعة الزهو بدورهم في الثورة الشعبية واعتبروا أنفسهم الأحق بالحكم وإدارة السودان بعد اقتلاع النظام الشمولي، وأوشك الاتحاديون والأمة على الانسحاب مما يعني انقسام القوي السياسية، ولكنهم تراجعوا عندما تدخل العقلاء بتذكيرهم بأن القضية، قضية وطن وسلام وديمقراطية وليس سلطة أو مناصب أو ثروة، وتم توقيع الميثاق الوطني فجر 5 أبريل 1985م، وانطلقت الانتفاضة الشعبية مستندة إلى الإجماع الوطني وانحياز القيادة العامة لخيار الشعب. وانظر إلى ما حدث في جنوب أفريقيا، فقد أدرك رئيس حكومة الأقلية البيضاء فريدريك ويليام دي كليرك أنه غير منطقي ولا واقعي استمرار "الأقلية البيض" في حكم الأغلبية الأفارقة، ولا بد من صيغة تراض بالحوار والاعتراف المتبادل لصالح الحفاظ على جنوب إفريقيا كوطن للأفارقة الأغلبية وللبيض الأقلية، واتجه رئيس وزراء البيض مباشرة إلى مقر السجن للقاء الزعيم نلسون مانديلا رئيس حزب المؤتمر الإفريقي وممثل الأغلبية للتجاوز ولم يأخذ الأمر منهما معاً سوي لقاءات محدودة، لأن القضية أمامهما كانت شديدة الوضوح، الحفاظ على جنوب إفريقيا كوطن للجميع، والحكم الديمقراطي لمن يملك الأغلبية والتعاضد والتسامح وتصفية إرث المرارات عبر صيغة توافقية، وبهذا "الحوار الإيجابي والمثمر" بين رئيس وزراء حكومة الأقلية البيضاء وزعيم الأغلبية الإفريقية نلسون مانديلا، حافظت جنوب إفريقيا على استقرارها ووحدتها ومكانتها كدولة متقدمة في كل إفريقيا، وعاش الأقلية البيضاء مع الأغلبية السوداء في وئام وتعاون للنهضة والتقدم معاً. وانظر إلى حال السودانيين، أي القوى الناشطة، في الحكم والمعارضة في عام 2014 وبعد نحو 180 يوماً بين شد وجذب وتحفظ وتمانع، وتصريحات متبادلة أبعد ما تكون للوصول "للحوار الوطني" الذي يمثل طوق النجاة للوطن وأهله ويحقق بالتراضي والتوافق على الثوابت الوطنية ومطلوباتها التامة وحمايته من الانزلاق للهاوية، بفعل الأجندة المزدوجة الخبيثة، داخلية وأجنبية لتجعل منه بقايا (سودان) بعد أن فقد ثلث مساحته وربع سكانه. هل يعقل استمرار الجدل لمجرد الجلوس على مائدة الحوار وطرح كل القضايا، والوصول إلى حلول متراضي عليها وتوافقية لصالح الوطن وأهله، ماذا دهي أهل السياسة في أي موقع، هل تنطبق عليهم فعلاً مقولة المفكر الرصين أحمد بها الدين في أعقاب استرداد الديمقراطية الثالثة في الثمانينيات وقد تابع التطورات الجارية في السودان، من الانتخابات إلي تشكيل الحكومات إلى حرب الجنوب، وعبر عن دهشة بالغة للمشهد المضطرب وجاءت قولته "لقد عادت القوى الناشطة للساحة السياسية وكأنها كانت في كوكب مجهول وتحركت بعقلية الخمسينيات وكأنما الأرض لا تدور، والشمس لا تشرق، والدنيا لا تتقدم، وكأنما السودانيون أنفسهم ليسوا جزءاً من عالم تحول إلى قرية صغيرة، كل شيء فيه يعرف في لحظته، وكل عمل جيد يري وكل إهمال أو خطأ أو غفلة محسوبة". وسجل السياسي الرصين الأستاذ علي عثمان محمد طه في مضابط البرلمان 14/4/2014م " إن الأحزاب السياسية ضربتها حمية سياسية وتشتت وتخندق كل حزب في قراراته مما جعل الحوار (حوار طرشان)"! هل نعترف ان السودانيين (الساسة) بارعون في صناعة الفشل؟ إذا انهار الحوار الوطني، فسيواجه الوطن وأهله مهددات جسيمة وضاع الجميع بمن فيهم أهل السياسة حكومة ومعارضة. نقلاً عن صحيفة التغيير 2014/6/8م