منذ زمن طويل لم تكن في الشرق الاوسط معركة زائدة كما هي "الجرف الصامد". واذا كان وقف النار هو نوع من علامة الفصل للطرفين، فان بوسعهما أن يعلنا عن النصر، غير أن هذا نصر "بيروس′′ (النصر الذي هو اقرب الى الهزيمة). لا ريب أن قادة حماس في قطاع غزة يقولون لانفسهم، في أعماق قلوبهم، ما قاله نصرالله علنا بعد حرب لبنان الثانية في 2006: لو كنا نعرف بان هذه ستكون النتيجة لما دخلنا في هذه القصة. وفي اسرائيل ايضا يفترض برئيس الوزراء نتنياهو، وزير الدفاع يعلون ورئيس الاركان غانتس ان ينظر الواحد الى الآخر ويسألوا أنفسهم: كيف حصل أننا جررنا الى مواجهة استمرت 51 يوما ودفعنا أثمانا بشرية، سياسية، اقتصادية وردعية بهذا الارتفاع؟ أين أخطأنا: في الخطة العسكرية؟ في الادارة السياسية للمعركة؟ في تنفيذها؟ أم ربما استخفينا ولم نقدر على نحو سليم قدرات العدو؟ الطرفان لم يرغبا تماما بهذه المعركة، والطرفان ارتكبا كل الاخطاء الممكنة كي ينجرا الى داخلها، والطرفان يجدان نفسيهما اليوم يعودان الى الخانة الاولى التي كانا فيها في بداية القتال: اتفاق كله برمته تكرار لتفاهمات "عمود السحاب زائد". و ال "زائد" يتناول اعمار قطاع غزة، الذي اصبحت اجزاء منه في اثناء الخمسين يوما من القتال جزر خراب. سكرة قوة في حماس في صالح رئيس الوزراء ووزير الدفاع يقال انهما اكتشفا انعدام الجدوى من هذه المواجهة من اللحظة الاولى وقفزا على كل فرصة لوقف النار. بالمقابل، آمن الذراع العسكري لحماس – الذي سكر بالقوة من خطوات القتال الاولى – بان بوسعه ان يجبي من اسرائيل ثمنا دمويا يكسر المجتمع الاسرائيلي معنويا. وبالفعل، قبل أربعة اسابيع، عندما عرض المصريون شروط وقف للنار مشابه بشكل مبدئي لتلك التي تقررت أمس – رفضت حماس. وقد كلفها هذا بضع مئات قتلى آخرين، الاف الجرحى ومئات الاف اللاجئين. لا توجد عائلة في غزة لم تصب باذى. بشكل مباشر أو غير مباشر. وسيكون صعبا على حماس أن تشرح لسكان القطاع لماذا وقعت عليهم هذه المصيبة. ناهيك عن أن حماس لم تحصل، حاليا على الاقل، على شيء من كل ما طالبت به. بعد شهر سيبدأ البحث في مطالبها بالنسبة لرفع الحصار وبناء ميناء في غزة. غير أن الشهر في الشرق الاوسط هو كسنوات جيل في مكان آخر. ما أن تدخل حماس الى وقف النار – سيكون صعبا عليها العودة الى القتال. الرابحون والخاسرون حددت حكومة اسرائيل للقيادة العسكرية عدة أهداف سياسية – عسكرية في هذه الحرب، 50 في المئة منها لم تتحقق. الجيش لم ينجح مثلا في وقف النار من قطاع غزة. وفشل بشكل مطلق أمام هدف غريب لم يكن له منذ البداية أمل في ان يفي به: الحفاظ على التمييز بين قطاع غزة والضفة. وبالمقابل نجح في أن يسحق جزءا لا بأس به من قوة حماس العسكرية. ومهامة معالجة الانفاق الهجومية – الهدف الذي ولد في اثناء القتال – تم جزئيا، ولكن في غضون فترة زمنية أطول مما خطط له. اليوم، في نظرة الى الوراء، يبدو أن الجيش ركز على مهامة واحدة مركزية: "كي وعي العدو". كم يحبون عندنا هذا التعبير الذي ولد في موعد ما هنا في الانتفاضة الثانية ووصلت ذروته في حرب لبنان الثانية. سخافة تكرر نفسها دوما. خلف هذا التعبير يوجد افتراض بانه لم تعد هناك انتصارات مطلقة حيال الارهاب. فمنظمات الارهاب لا تهزم بل يجري التأثير على وعيها. ومع أن رئيس الوزراء غير تعبير الكي بشعارات مثل "الهدوء يستجاب بالهدوء"، و "الاستنزاف يستجاب بالضربات"، ولكن المفهوم هو ذات المفهوم الذي يعتقد: حاول فهم منطق معركة الخصم والتأثير على وعيه. وهو سيفهم متى سيخسر: سيخرج من الخنادق، سيرى الدمار، سيصدم ويطلب وقف النار. إذن على طول المعركة لم نفهم منطق الحرب لدى حماس، لم نمس بروحها القتالية. فهل نجحنا في أن نكوي عندها أحدا في وعيه؟ ربما. سكان غزة اكتووا، بل واكتووا جدا. خاسرة كبيرة اخرى في هذه القصة هي الولاياتالمتحدة. فالامريكيون، الذين اختاروا المسار غير الصحيح في ادخال قطروتركيا الى الصورة، ابعدوا عن المسيرة، اصبحوا مراقبين بدلا من قائدين، ويحاولون ترميم مكانتهم المتهالكة في المنطقة. ولكن قطروتركيا ايضا خسرتا خسارة كبرى. الرابحون الكبار هم بالذات المصريون: فقد اصروا على الخطة التي عرضوها، نجحوا في دحر تحالف الاخوان المسلمين لقطر – تركيا الى خارج المفاوضات وعززوا الدول العربية المعتدلة. لقد أوضح الرئيس السيسي للامريكيين بان بدونه لا يتحرك شيء في الشرق الاوسط وانه هو وحده قادر على ان يعيد ابو مازن الى القطاع. لم يعد اوزة عرجاء رئيس السلطة الفلسطينية هو الاخر يخرج من هذه المواجهة في وضع لا بأس به: من اوزة عرجاء تحول الى وسيط مركزي. ومنحه المصريون مكانة رئيس فريق المفاوضات، وكل الساحة الدولية تتجند لمساعدته للسيطرة على غزة من جديد. وأكثر من ذلك: هو كفيل بان يتلقى دعما دوليا لاحياء المسيرة السياسية مع اسرائيل في شروط مريحة له. ان وقف النار سيؤدي في غضون يومين – ثلاثة ايام الى اجتماع مجلس الامن في نيويورك. وفي هذه الساعات بالذات تتبادل الولاياتالمتحدة والدول الاوروبية فيما بينها صيغا مختلفة لمشروع قرار يتفق عليه في المجلس. ويتضمن المشروع المبادرة المصرية المعروفة الى جانب اقامة آلية رقابة دولية على وقف النار، على المعابر، على اعمار غزة وعلى المسيرة السياسية الشاملة في المنطقة. قاعدة معروفة في الدبلوماسية تقول: "محظور تضييع أزمة جيدة". في المواجهة الشديدة مع حماس منحت اسرائيل فرصة لمحاولة الخروج من الجنوب السياسي الذي علقت فيه كنتيجة لمبناها الائتلافي. ليس متأخرا بعد. يمكن تحويل الصدمة الاقليمية التي خلقتها هذه الخطوة العسكرية الى اختراق سياسي متداخل مع الائتلاف العربي المعتدل الذي تبنيه مصر في المنطقة. "كي الوعي" ليس هدفا سياسيا. في افضل الاحوال يدل على الرغبة في البقاء في اعماق الجمود السياسي. وفي أسوأ الاحوال: هذه دعوة للجولة التالية. المصدر: رأي اليوم الالكترونية 28/8/2014م