وجوب مغبرة القدمين منكوشة الشعر محمرة العينين من كثرة البكاء تقف على الرصيف الأسكتلندي وتبحلق في صناديق الاستفتاء المملوءة بكلمة (لا للاستقلال) ثم تبلع ريقها وتمسح لعابها بفمها كطفل محروم يتشابى إلى قطعة حلوى في يد الآخرين. في الوقت الذي كانت فيه بقايا قوات رياك مشار تحاصر ملكال وبعضها ينحدر شمالاً للدخول إلى الرنك، وبين كل مدينة ومدينة تتناثر جثث الأبرياء الغرباء، طحين الصراع الذي سحق كل شئ في الجنوب كانت حملة (أفضل معاً) التي اتخذها الأسكتلنديون الرافضون للاستقلال عن المملكة المتحدة يزهر ويثمر ويختار الوحدة بنسبة تفوق ال55% ثم تذهب أسكتلندا لتنم غريرة العين تحت التاج الملكي داخل حوش المملكة الكبير. الأسكتلنديون اختاروا الوحدة، لأنهم ببساطة لم يتركوا النخب تحكمهم بالنيابة وتقرر بدلاً عنهم... اختاروا الوحدة، لأنهم يعرفون كيف يفرقون ويستخلصون الحقائق من الأكاذيب في حملة وزيرهم الأول الذي قاد حملة الانفصال فخسر واستقال، ولأنهم يعرفون كيف يحسبون مصالح الوحدة وخذلان الانفصال بلغة اليورو والاقتصاد وبلغة العقل لا العاطفة التي تدغدغها آلاف الخطب الرنانة الكذوب. الأسكتلنديون اختاروا الوحدة، لأنهم عرفوا أن مستقبل الشعوب أكبر بكثير من خلافات السياسة العابرة، وأثقل وزناً بكثير من أحلام وطموح النخب، الشعوب لا القادة، والتأريخ والمستقبل وليس اللحظات والفترات العابرة، الاستراتيجي وليس التكتيكي، الأجيال القادمة وليس عواجيز الحاضر. الآن سيفهم فاقان ومشار وسلفا وبقية طابور الفاشلين أن الأوطان لا تساق كما تساق الأنعام، وأن الحكمة لا تشترى من الأسواق، وأن الفطنة وبعد النظر لم يكن لديهم فيها نصيب، الجنوب بمدنه وقراه وخيراته كان يحتاج إلى قادة حقيقيين وليس مجرد (وليدات) مراهقين تسكرهم فرحة أن يقال عنهم آباء الدولة الوليدة فينتبهون فلا يجدون دولة ولا يحزنون، بل يجدون أكواماً من الرماد وبقايا جمر خبأ منه اللهيب ولم يعد يصلح لإنضاج شئ سوى العبرة والعظة. هؤلاء المتهورون كانوا يحتاجون إلى من يقول لهم.. إن الدم يبين جوباوالخرطوم أكثر كثافة بكثير من مجرد شكلة عابرة وستعبر مع المؤتمر الوطني وأن تأريخ التآخي والتنكب والبحث عن شواطئ هادئة للتعايش السلمي أطول بكثير من تأريخ حروبات صيف العبور والميل أربعين ولكن (مين يقرأ ومين يسمع؟). عشر وعود زاهيات رفعها دعاة استقلال اسكتلندا أمام الجماهير، كل وعد منها يمثل مزية يسيل لها اللعاب، وكل الذي فعله أذكياؤهم أن وضعوا عبارة واحدة أمام كل وعد.. وضعوا هذا السؤال الصغير (وماذا إذا لم تتحقق هذي الوعود وخابت تلك الأمنيات؟). السؤال البسيط الذي غاب عن ذاكرة فاقان ورهطه عشية ذبحهم لخيار الوحدة – من الوريد إلى الوريد – ولم يستبقوا للعودة شيئاً. عزيزتي جوبا.. وماذا يأخذ الإنسان في دنياه غير الحظوظ المكتوبة في لوحة قبيل أن يخلق في الأرحام وأنت حظك من القادة هم هؤلاء السذج والبسطاء والسطحيون الذين لم يأخذوا من الغرب سوى ربطات العنق والأحذية والشرابات القطنية وهو بالمناسبة حظ ليس أبخس بكثير من حظ الخرطوم (فالطيور على أشكالها تقع). مبارك.. (لندن) ومبارك (أدنبرة)، ولكن بعد كل ذلك يصح لنا التساؤل الحارق.. إن كانت الوحدة بكل هذه الحلاوة فلماذا جعلتم نصيبنا منها (قانون المناطق المقفولة) لماذا؟. نقلاً عن صحيفة التيار 21/9/2014م