ليس جديداً على القضاء السوداني أن يقف مع المظلوم وينتصر لضميره المهني وأخلاقياته التي ورثها جيلاً عن آخر، ويصدر حكماً بإعدام ضابط شرطة قتل امرأة مستضعفة من غمار الناس عمداً .. بعد أن تمددت الشائعات وساد اعتقاد وسط المدينة بأن الضابط الذي قتل السيدة عوضية عجبنا لن يصدر حكم بإعدامه وإدانة من معه من ضباط الصف والجنود، بعد أن تعددت تأجيلات جلسة النطق بالحكم وتطاولت لشهور، رغم اكتمال جلسات الحكم وإصغاء المحكمة لشهود الاتهام والدفاع .. وأخذت قضية اغتيال عوضية عجبنا مسارات ومنعطفات عديدة ورفعت جهات مناوئة للنظام ثوب القتيلة للمتاجرة والتربح والتكسب سياسياً على حسام قيم المجتمع الفاضل الذي خرجت من صلبه الشهيدة عوضية، ونعي أهلنا النوبة الذين صبروا وتمسكوا بالحق والقانون حتى انصفهم القضاء، ولم يستجيبوا لكل دعاوى التحريض الاثني والسياسي للوقيعة بينهم والحكومة، حتى تتفجر الأوضاع ويستثمر المستثمرون في الأحداث والدماء الوقيعة والفتنة. * اذا كان القضاء قال كلمته وأثبت حق القصاص للجاني فإن الواقعة عظة وعبرة لأولي الألباب .. فالضابط الذي قتل عوضية أساء التصرف وتجاوز القانون ولكن في ذات الوقت لا يعرف القتيلة وليس بينه وبينها خصام ولا نزاع شخصي .. بل كان الرجل يؤدي واجبه الذي كلف به من قبل الدولة فأساء التقدير ووجد الآن نفسه أمام أخطاء نفسه وغيره. والتمييز بين أداء الشرطي لواجبه وما تمليه عليه قيادته والتصرف بعقلانية خيط رفيع جداً .. والشرطة السودانية عرفت بالانحياز الى شعبها وحمايته ومساندته والسهر لراحته (ومن يعمل يخطئ) كما يقول المثل المصري، وتضخيم أخطاء الشرطة الفردية ليس في مصلحة البلاد مهما كانت .. وفي ذات الوقت لا عصمة ولا حصانة لمن يتجاوز حدود التفويض .. والملازم الذي صدر بحقه حكم بالإعدام أمامه بطبيعة الحال فرص للاستئناف حتى أعلي درجات التقاضي .. وباب العفو عند المقدرة لم يغلق بعد. وقد عرف أهلنا النوبة بالتسامح والتسامي فوق الجراحات ولو كان النوبة ممن يحملون في قلوبهم غلاً وحقداً لما كانت البلاد على ما هي عليه اليوم. ولو اتكأت أسرة الملازم الذي قتل الشهيدة عوضية على علاقات القبائل والصلات الإجتماعية ربما لا يذهب القاتل لمشنقة القصاص .. ولكن كثيراً من الناس يعتمدون على السلطة وقوتها وبريقها وهي لا تنفعهم في شيء، وكل السلطة إذا وقفت في كفة والحق في كفة أخرى لانتصر الحق ولو أجلاً. نذكر هنا مبادرة المسيرية بقيادة كبيرها وحليمها المهندس حسن صباحي والأمير إسماعيل حامدين أحد رجالات الإدارة الأهلية القلائل في السودان حينما تم أسر اللواء طيار إبراهيم البشري من الفاشر بواسطة قوات أركو مناوي والتي دخلت الفاشر وواليها الفريق إبراهيم سليمان عاكف في المسجد، تولي المسيرية مهمة إعادة ابنهم الأسير بعيداً عن الحكومة ومن غير مشورتها .. ورحل الأمير إسماعيل حامدين لديار الزغاوة في أقصي شمال دارفور يبحث عن اللواء طيار إبراهيم البشرى بين الأودية والجبال والصحاري، ويفاوض مناوي وعبد الله أبكر حتى وافق التمرد على إطلاق سراح لواء في القوات المسلحة، ليعود ود البشرى للقوات المسلحة بحلم وتدبير وتخطيط القيادة الإجتماعية لقبيلة المسيرية .. ولو وضع المسيرية حينذاك الحكومة ظهراً لهم لفقدوا ابنهم .. والذي حينما عاد مناوي للقصر مساعداً للرئيس كان الطيار إبراهيم البشرى يقود الطيران الرئاسي ويا لها من غرائب وعجائب. قد يصفح أهل الشهيدة عوضية سليلة السلطان عجبنا عن دمها الذي أريق دون وجه حق، وتتصافي النفوس ما بين أسرة الشهيدة وأسرة القاتل بعيداً عن الحكومة .. ويصبح الملازم في يوم ما مديراً لشرطة جبال النوبة وحامياً لأهلها ومنافحاً عنهم. نقلاً عن صحيفة المجهر السياسي 2014/10/30م