بلا شك فإن المجتمع الدولي ضالع بصفة أساسية فى الأوضاع المأساوية والمحزنة التي تعيشها دولة جنوب السودان منذ أكثر من عام ونيف، وهي أوضاع لا يمكن القول أنها (طبيعية) بحال من الأحوال وليس أدل على ذلك من أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون فى أحدث تصريح وتوصيف لهذه الأوضاع قال إن الطموحات الشخصية لقادة الصراع هناك -كير ومشار- هي التي أدت إلى هذه الأوضاع ما بين سقوط الضحايا اليومي بالآلاف وفرار عشرات الآلاف وتدمير كل مقومات الحياة. ولا أحد بوسعه المجادلة بشأن هذه الأوضاع كونها قد تفضي إلى التهاب بالمنطقة بأسرها. فهكذا هي الصراعات فى أفريقيا مثل النيران التي تشتعل في قرية مشيدة بالمكونات المحلية الهشة إذ من السهل أن تنتقل النيران إلى أرجاء واسعة منها وتأكل الأخضر واليابس. غير أن بروز هذا الصراع وعجز المجتمع الدولي عن كبح جماحه حتى الآن بل وقعود الولاياتالمتحدة عن القيام بأي دور من أجل احتوائه رغم أنها صاحبة القدح المعلى فى ميلاد دولة جنوب السودان والتي اقتطعت اقتطاعاً من السودان بات يشكل تهديداً مباشراً وخطيراً على الأمن القومي السوداني من أي زاوية نظرنا إليه. أولاً، الصراع الدائر فى دولة الجنوب ما زال يغذي الفصائل المسلحة التي تنشط ضد الحكومة السودانية (قطاع الشمال وحركات دارفور المسلحة)؛ فهي تستفيد من أجواء الصراع فى الحصول على المال والسلاح من خلال مناورتها بالوقوف مع أحد طرفيّ الصراع. هذا الوضع فاقم من قيام الحكومة الجنوبية بتقديم الدعم للفصائل المسلحة التي تقاتل الحكومة السودانية. لقد غرقت الحكومة الجنوبية فى الواقع -بوعي أو بغير وعي- في دعم الحركات السودانية المسلحة ولم يستطع التخلي عن هذا الموقف، بل إن جوبا لم تعد تجد الوقت الكافي للتفكير فى مخاطر موقفها هذا كما أن المجتمع الدولي المدرك لهذه المخاطر والمخالفة الصريحة للقانون الدولي يبدو غير عابئ بما تقوم به جوبا. من المؤكد أن استمرار هذا الوضع دون قيام جوبا بمراجعة موقفها واتخاذ خطوات حقيقية وجادة على الأرض من شأنه أن يفضي لاحقاً -وفي نقطة مفصلية ما- إلى اضطرار السودان مدفوعاً بحماية أمنه القومي باتخاذ تدابير من الممكن أن تفضي إلى مواجهة مع جوبا وحينها يصبح الصراع ذي طبيعة إقليمية بالغة الخطورة، وهي واحدة من أكثر سمات الحروب الأهلية الإفريقية، خاصة وأن الرئيس اليوغندي (موسيفني) أدخل بلاده طرفاً أصيلاً في الصراع. ثانياً، الصراع الجنوبي الجنوبي حتى ولو تم إخراج الفصائل السودانية من مضماره، إذا استمر بهذه الوتيرة دون أن تلوح فى الأفق أية إمكانية لحلول إستراتيجية حاسمة من شأنه أن يفرز وضعاً إنسانياً يتحمل السودان -وحده- كل نتائجه الوخيمة المتمثلة فى استقباله لملايين المواطنين اللاجئين الفارين من جحيم الحرب والذي سيطول بقاؤهم فى السودان سواء لأنّ الصراع قد يتخذ منحى قبلياً مريعاً -أسوأ من تجربة رواندا وليبريا- أو لأن البنية التحتية –على هشاتها– في الدولة الجنوبية الوليدة ستحتاج إلى عشرات الأعوام لكي يتم إنشاؤها من جديد؛ ولن يغامر المواطنون الجنوبيون بالعودة قريباً طالما رأوا بأعينهم طبيعة الاوضاع وخطورتها، وهذا من شأنه أن يشكل ضغطاً اقتصادياً مهولاً على السودان فى ظل معاناته -من الأساس- من تعقيدات اقتصادية. وهو أيضاً ما قد يفرز ظاهر إجرامية سالبة فى ظل عدم التوصل حتى الآن مع الحكومة الجنوبية إلى نقطة صفرية لترسيم حدود طويلة ومتداخلة، وفى ظل بقاء الحال على ما هو عليه بشأن القضايا المعقدة العالقة بين الدولتين. ثالثاً تعنُّت الحكومة الجنوبية بلا أدنى مبررات فى حل القضايا العالقة وتنفيذ البرتوكولات الأمنية المهمة التي وقعتها مع الحكومة السودانية لن يتيح للسودان ترتيب بيته من الداخل. بمعنى أنه حتى ولو نجح السودان على المدى القريب فى حل المشكلة الداخلية مع المعارضين السودانيين وتم التوصل إلى صيغة سلمية فإن وجود إشكالات الحدود والنقاط الحدودية والنزاع فى أبيي بكل زخمه، مع استمرار جوبا فى تقديم الدعم لبعض حملة السلاح السودانيين من شأنها أن تجهض أية عمل استراتيجي من هذا القبيل في السودان. وعلى ذلك فإن ترك المجتمع الدولي للنزاع الدائر فى دولة الجنوب في ظل ضغطه المتواصل على الخرطوم لتحل الأخيرة قضايا الحكم والسياسية مع معارضيها هو في الواقع مسلك غير استراتيجي وربما لا يخلو من سوء تقدير وسوء نية فى ذات الوقت، ومن الغريب أن المجتمع الدولي الذي شهد ميلاد الدولة الجنوبية وسيطر عليها يدعها هكذا متفرجاً على تطاير الدماء في حين أنه يضغط على السودان مع الفارق الشاسع في الأوضاع فى الحالتين.