زرت أحدي الولايات الحدودية قبل نحو عامين فوجدت أقصر ساعات عمل عرفتها عند أهل أحدي مدنها، فالسوق يفتح أبوابه متأخراً ولا ينتظم العمل في المتاجر إلا بعد أن تحل الساعة الثانية عشرة منتصف النهار، ولن تستطيع قضاء كل حاجياتك إن لم تتعجل في التجول داخل السوق وأخذها تارة واحدة دون الحاجة إلي الرجوع إليه مجدداً، فالخامسة عصراً هي ساعة إغلاق معظم التجار لمحالهم التجارية والتوجه نحو سوق اللحوم المشوية حيث يقبل عليها الكل وكأنهم في يوم عيد النحر صحيح أن أسعار اللحوم رخيصة هناك حيث محضن المواشي مقارنة بالأسعار في الخرطوم، لكن تحول الأمر إلي عادة يومية للكثيرين يجعلك في حيرة من أعمال هؤلاء التجار الذين يبدو عليهم وبرغم ساعات عملهم المحدودة أنهم ميسورو الحال. وجعلت أعمل حاسة الاستقصاء حول بماذا يتاجرون؟ ولا أخفيكم القول فقد قلت ربما يكون الفارق لبعض السلع المستوردة هنا كبيراً عن الخرطوم وقد يغريني بالدخول إلي عاملة التجارة إن كان الأمر مربح بهذه البساطة فجاءتني الإجابة من أحد الزملاء القدامى من أبناء تلك الولاية، قال لي عندما تغيب الشمس هنا يبدأ العمل في الظلام في تهريب بعض السلع عبر الحدود إلي خارج السودان والأسعار هناك مضاعفة والفارق كبير ومغري، ثم صارحني أحد القيادات المجتمعية بأن هناك المئات من عربات الكارو التي تجرها الدواب وتحمل براميل شبيهة بالتي تحمل المياه في أطراف الخرطوم. تقوم بتهريب الوقود إلي دولة مجاورة في رحلة قصيرة لا تتعدي بضع ساعات، يعود المهرب إلي منزله قبل الفجر وقد حصد مبلغاً طائلاً خطرت ببالي هذه الحكاية وأنا أطلع الجهود الجبارة التي بذلتها الأجهزة الأمنية لإحباط تهريب كميات من السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية إلي دول الجوار، والقاسم المشترك بين هذه السلع سواء كانت دقيقاً أو وقوداً أو غاز البوتاجاز أنها جميعها مدعومة من قبل الحكومة، وأن أي تهريب لها يدفع ثمنه المواطن السوداني لأنه كدافع ضرائب سيتحول إلي داعم لسلع مواطنين آخرين في دول الجوار، وسينعكس ذلك عبئاً ثقيلاً علي اقتصاديات الدولة لأنه يضاعف من استيرادها لتلك السلع ويخل بميزانها التجاري ويستنزف احتياطاتها من العملات الصعبة. حاشية: إن مكافحة تهريب السلع الاستهلاكية الأساسية أمر أساسي في المحافظة علي اقتصاد معافي وخال من التشوهات، سيما وأن ذلك قد جاء سابقاً لسياسة وزارة المالية بفك احتكار استيراد القمح لكل المطاحن حتي يكون الاستيراد علي قدر احتياج السودان واستهلاكه وليس لكل جيرانه، بيد أن مكافحة التهريب بهذه المحاضن الاجتماعية يحتاج إلي جهود مجتمعية تشكل التوعية بأضراره الاقتصادية التي تعود علي المهرب نفسه ومجتمعه واستصحاب قيادات ورموز المجتمع في التصدي للتهريب. نقلا عن صحيفة الرأي العام 17/8/2015م