تعيشُ الخُرطوم هذه الأيام أجواءًا من الترقُّب المشوب بالقلق؛ بسبب اقتراب الاستحقاق الخاص بالاستفتاء على حقّ تقرير المصير المقرَّر له أن يتمَّ في مطلع يناير 2011، حيث يختار شعب جنوب السودان بين البقاء في السودان الموحَّد طبقًا للنظام الذي أقرَّته اتفاقية نيفاشا وبين الانفصال في كيان جديد, سوف يمثِّل الدولة رقم 11 في حوض النيل. المتابع للشأن السوداني يمكنه أن يلحظ بسهولة من خلال تصريحات كبار المسئولين وبخاصة الرئيس البشير ونائبه علي عثمان طه, ومن خلال الأجواء الإعلامية وأحاديث رجل الشارع, أن هناك إشفاقًا من التداعيات التي سوف تترتب على الانفصال المتوقَّع.. وهنا يجب أن نفَرِّق بين عدم الممانعة الشمالية الواضحة في أن يذهب الجنوبيون إلى حال سبيلهم، وأن يجرِّبوا إدارة دولتهم وشئونهم بمفردِهم, وبين القلق الواضح من ألا يكون الانفصال نهايةً لهذه العلاقة المأزومة والمسكونة بالهواجس مع الجنوب, وأن يتحوَّل الانفصالُ إلى نقطة البداية في مسار جديد من الصراع بسبب التداخُل بين الشمال والجنوب, فهما في نهاية المطاف تعبيرٌ عن نسيج متداخل لا بدَّ أنْ يصيبَه التهتُّك في حالة فصلِه عن بعضه البعض, وأيضًا بسبب العديد من الملفَّات التي ما زالتْ عالقةً مثل ترسِيم الحدود وقضايا البترول والديون والأصول المشتركة وأوضاع الجنوبيين في الشمال والشماليين في الجنوب.. إلخ, وهناك أيضًا قضايا أخرى بالغة الحساسية مثل أوضاع مناطق التخوم التي تقع على الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب, وهي جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة وإبيي.. هذه المناطق كان من المفترض أن تكون مناطق تعايش وتواصل وربط بين الشمال والجنوب, ولكنها تحوَّلت بسبب الحرب والصراع إلى مناطق قلق وتوتُّر.. ففي حالة وقوع الانفصال: ما آثار ذلك على هذه المناطق التي تقع جغرافيًّا في الشمال (ما عدا إبيي التي لها وضعٌ خاص) في حين أنها أقرب إلى الجنوب من الناحية الإثنية, وخاضت أجزاء كبيرة منها الجولة الثالثة من الحرب الأهلية مع الحركة الشعبية.. هل سوف تستقرُّ أوضاع هذه المناطق أم أنها ستكون ساحةً لحروب بالوكالة أم أنها ستتحول إلى حرب مباشرة لا سيَّما أن هذه المناطق تتمتع بحق "المشورة الشعبية" كما جاء في بروتوكولات نيفاشا، يُضاف إلى ذلك هاجس آخر هو الأثر المتوقع على أزمة دارفور التي أكملت عامَها الثامن وهي تدور في مَتَاهَة البحث عن حلول وعن مخارج.. فهل سوف تنتقل إليها عدوى النموذج وتسير في نفس الاتجاه.. أي الاستعصاء على الحلّ السلمي والتسوية السياسية, ثم الشعور برهق الحرب والرغبة في إنهائها والتخلُّص من أعبائها.. ومن ثَمَّ يبدأ حق تقرير المصير الذي يطلُّ برأسِه منذ فتره في مطالبات لفظية متناثرة هنا وهناك في شق مساره الصاعد بعد أن تكون الأجندات الإقليمية والدولية قد مهَّدتْ له الأرضية وخلقت الأجواء المناسبة. على الناحية الأخرى تبرز أسئلة أخرى كثيرة عن قدرة الكيان الجنوبي الجديد على التماسك والاستمرار, فضلًا عن قدرته على حفظ الأمن والحد الأدنى من الاستقرار اللازم لتوفير مقوِّمات الحياة, وعن توافُر الخبرات والقدرات الإدارية الضرورية لبناء وقيادة دولة جديدة تتسم بالانعدام الشامل للبنية التحتية وأعباء ما بعد الحرب من استيعاب المقاتلين والتحوُّل إلى الحياة المدنيَّة، فالجنوب كما هو معروفٌ يتكون من فسيفساء واسع من القبائل التي تمتلك كل منها لغتها وثقافتها ومعتقداتها الخاصة, ومعظم هذه القبائل بينها تاريخ طويل من الصِّدام والصراع وعلاقات يسيطر عليها تاريخ طويل من المخاوف.. والولاء الأخير للإنسان فيها هو للقبيلة؛ حيث لم تنشأ بعدُ فكرة الانتماء الأوسع إلى وطن. كما أن المشاركة من قبائل عدة في خوض الحرب ضمن الحركة الشعبية كان محددُه الأساسي هو وجود ما كان يُنظر له باعتباره عدوًّا مشتركًا هو الشمال, أما بعد اختفاء هذا العدو أو إزاحته فمن المتوقع أن تعلوَ سمة التناقضات الداخلية على ما عداها, وهذا ما تشير إليه الاشتباكات الدموية خلال عام 2009 والتي نَجَمَ عنها حوالي3000 قتيل وأكثر من270 ألف نازح حسب تقارير بعثة الأممالمتحدة في الجنوب, ثم التمرُّد الحالي بسبب نتائج الانتخابات، والذي لم يتم احتواؤه بعد.. هذا العنصر نفسه هو أحد مسبِّبات القلق, فعدم القدرة على التماسك أو توفير الأمن في الداخل قد تُغري قادةَ الدولة الجديدة بتطوير الخلافات مع الشمال إلى شكل من أشكال الحرب أو الصراع لاستعادة الأدوار الخاصة بالعدو الخارجي لشغل الداخل ودعوتِه إلى تأجيل خلافاته وتناقضاته إلى ما بعد المواجهة مع العدو الحقيقي أو المتوهَّم. حول هذه القضايا المتصلة بحق تقرير المصير عقد مركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجية ندوةً حاشدة في الخرطوم في منتصف هذا الشهر تحت عنوان "تقرير المصير.. الحق والواجب" نوقشت فيها مجموعة من الأوراق بالغة الأهمية, والتي تناولت الجوانب المختلفة لحق تقرير المصير وتداعياته المرتقبة, وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلًّا من هذه الأوراق يحتاج إلى عرض ومناقشة خاصة لا يتسع له هذا الحيز, على أمل أن نعود إليها في فرصة أخرى, ولذا سنكتفي بالإشارة إلى عناوينها التي جاءت علي النحو التالي: حق تقرير المصير ومآلات الاستفتاء- د. خالد حسين محمد, قضية الهوية في جنوب السودان حالتي الوحدة والانفصال- بروفسور: حسن مكي, أثر الانفصال على مياه النيل- د. أكرام محمد صالحي, مآلات انفصال جنوب السودان على المناطق الثلاث- د. حسين كرشوم, أثر انفصال الجنوب على علاقات السودان الخارجية- د. صفوت فانوس, الآثار السياسية المترتبة على انفصال جنوب السودان- د. آادم محمد أحمد, الانفصال والمخاطر على الأمن الوطني السوداني- الفريق الفاتح الجيلي, تقرير المصير وتقاطع الاستراتيجيات- الفريق السر محمد أحمد. الندوة التي نظمها وأشرف عليها الدكتور خالد حسين والطاقم المعاون له تم الترتيب لها بعناية بحيث تَمَّ اختيارُ المتخصصين كل في مجاله وشارك فيها عدد من أبرز أساتذة الجامعات السودانية ومن الباحثين والقادة العسكريين المتقاعدين, وإن غابت عنها المشاركة الجنوبية على مستوى الأوراق المكتوبة وإن لم تغب في صفوف الحاضرين الذين شارك العديد منهم بتعليقات ثرية وهامة, وقد برَّر الدكتور خالد حسين النقص في هذا الجانب بأنه كانت هناك أوراق من مثقفين جنوبيين إلا أنهم اعتذروا قبيل موعد الندوة لأسباب متعددة. شهدت قاعة الصداقة -حيث جرت وقائع الندوة- حضورًا ومشاركةً كثيفتين وتغطية إعلاميَّة واسعة من مختلف الوسائط المرئية والمسموعة والمكتوبة, بسبب أهمية الموضوع الذي تناقشه وهذا العدد الكبير من المتخصصين من مختلف الاتجاهات, كما شارك في الجلسة الافتتاحية وزير الخارجية الجديد علي كرتي في أول ظهور له بعد أن ورد اسمه في التشكيل الوزراي وقبل أن يؤدي القسم الذي كان محددًا له اليوم التالي للندوة. حديثُ "كرتي" كان يسعى في مجملِه إلى وضع قضية حق تقرير المصير في إطارها الواقعي, حيث تناول بالنقد الحملة الإعلامية واسعة النطاق التي تسعى للتعبئة من أجل الحفاظ على الوحدة, وقال: إنه فات الوقت على انتظار معجزات من أجل الوحدة وأن هذه التعبئة قد تكون ضارةً لأنها تخاطب مواطني الشمال الذين لن يشاركوا في التصويت, كما أنها سوف تخلق توقعاتٍ متزايدةً قد يصعبُ تلبيتها, مما قد يخلق إحباطًا وأثرًا عكسيًّا, وأنه يجب توجيه هذه الحملة إلى الجنوب الذي سوف يصوِّت في الاستفتاء. تناوَل "كرتي" أيضًا الإطارين الدولي والإقليمي وقال: إن الموقف الأمريكي حائرٌ بسبب موقف جماعات الضغط المنحازة الأقرب إلى دعم مواقف الحركة الشعبية, في حين أن الموقفين البريطاني والفرنسي يمكن الوصول معهما إلى تفاهمات, وفيما يتعلق بدول الجوار الإفريقي أشار إلى الدور الأوغندي وقال: إنه يسعى إلى دعم التوجُّه إلى الانفصال بالنظر لما يعتقدُه الأوغنديون أنه مصالح لهم.، وحين تطرَّق الحديث إلى الدور المصري أشار كرتي إلى أن معلومات مصر عن تعقيدات الأوضاع في السودان, وأن الدور المصري ضعيف مقارنةً بما يحدث في العمق الاستراتيجي لمصر، كان من الواضح بالنسبة لي -حيث كنت مشاركًا في الجلسة الافتتاحية بجوار الوزير- أن الرجل كان يقصد النخبة المصرية حين تحدث عن عدم الإلمام بتعقيدات الأوضاع السودانية, حيث إن الدولة المصرية لديها بالتأكيد ملفاتها المتكاملة في هذا الإطار, ومن غير المنطقي تصوُّر غير ذلك, لا سيَّما أن الحديث عن ضعف إلمام النخبة المصرية بما يجري في السودان ضعيف بالفعل ولهذا أسباب كثيرة، أما الحديث عن الدور المصري الضعيف فإن القراءة الطبيعية له هي أن المطلوب دور أكبر من ذلك. وسائل الإعلام لم تأخذْ من حديث كرتي سوى عباراته عن الدور المصري، وأُخرجت من سياقها واستخدمت كعناوين رئيسية في العديد من الصحف, الأمر الذي استدعى رد فعل مصري يطلب إيضاحات رسمية لتصريحات الوزير, وبدا أن هناك توترًا في الأجواء بين البلدين سرعان ما تم تجاوزُه, بعد توضيحات شافية من المتحدث الرسمي باسم الخارجية السودانية, غير أن هذه الحادثة أوضحت بلا شك أن هناك جوانب كثيرة في العلاقات المصرية السودانية تحتاج إلى حوارات مطوَّلة ومعمَّقة بين الجانين, وأن هذه الحوارات يجب أن تتم بالأساس مع النخبة السودانية بمعناها الواسع أو العريض، وبما يشمل أساتذة الجامعات ورجال الإعلام وكُتَّاب الرأي وقطاعات الاقتصاد والثقافة والعمل المجتمعي. لقد لمستُ الحاجة العميقة والعاجلة لإيجاد إطار جديد يستطيع أن يُلبِّي هذا الاحتياج, وذلك عبر مجموعة من الحوارات واللقاءات التي دارت في مؤسسات عدة وبالغة الأهمية والتأثير، والتي لقيت في العديد منها صورًا مغلوطة أو مبتورة عن مصر ورؤاها وسياساتها تجاه السودان, وهذا وإن كان يتم حتى الآن في إطار من العلاقة التاريخية التي ما زالت تحفظ العديد من الروابط, إلا أن استمرارَها على هذه الشاكلة سوف يحمل أخطارًا أكيدة في المستقبل. نقلا عن التيار 8/7/2010