قبل أكثر من عامين، كنت في زيارة إلى السودان ضمن وفد صحافي من الإمارات، تضمنت الذهاب إلى إقليم دارفور،الذي كان ولا يزال الملف الأكثر توترا والتهابا، في ملفات السودان المتعددة. يومها التقينا الدكتور مصطفي إسماعيل مستشار الرئيس السوداني، ورغم أن قضية دارفور كانت الأشد حضورا في حواراتنا مع العديد من المسؤولين السودانيين، إلا ان اللقاء مع الدكتور إسماعيل اخذ منحى آخر، وشكلت قضية انفصال الجنوب المحور الأبرز في اللقاء. ورغم ان الوقت كان لا يزال مبكرا على موعد الاستفتاء المقرر في يناير المقبل لتحديد مصير جنوب السودان تنفيذا لاتفاق السلام، الذي أنهى الحرب الأهلية، وجدتني اسأل مستشار الرئيس السوداني مباشرة عما إذا كانت الحكومة قد وضعت في الحسبان ان يقرر أبناء الجنوب خيار الانفصال، فكانت الإجابة التي لم أتوقعها هي كلمة لا. اليوم ربما يكون الحديث قد تجاوز مرحلة ما إذا كانت الخرطوم قد استعدت لانفصال الجنوب أو البقاء في دولة الوحدة بعد أن ازدادت في الآونة الأخيرة أحاديث الانفصال، وان الاستفتاء سيكون تحصيل حاصل لرغبة الجنوب في الانسلاخ عن شمال السودان، في ظل ترويج مسؤولين جنوبيين كبار لمصطلح الاستقلال وليس الانفصال استباقا لنتائج الاستفتاء المنتظر. وخلال زيارته إلى القاهرة في الأيام الأخيرة، لحضور ورشة العمل الثانية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، راح باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان، يتحدث صراحة عن ما أسمته صحيفة الأسبوع المصرية ملامح دولة الجنوب التي قال إنها ستلعب دور الوسيط بين دول مصب ومنابع نهر النيل. أموم لم يكتف بطمأنة هواجس مصرية، ان لم تكن مخاوف على مستقبل حصتها في مياه النيل، في ظل الخلافات مع غالبية دول المنبع، لكنه أشار في أكثر من موضع إلى ان الانفصال عن الشمال قادم لا محالة، وان العلاقة بين الشمال والجنوب بعد الانفصال ستكون أفضل من الوحدة الإجبارية الحالية وفقا لتعبيراته التي نقلتها الصحيفة في عددها الأخير. تأكيدات أموم على اتجاه الجنوبيين إلى اختيار الانفصال في الاستفتاء القادم، تأتي في ظل أجواء إقليمية ودولية تدفع نحو هذا الخيار، فمصر أكثر الدول العربية التصاقا بالسودان جغرافيا ومن حيث المصالح، بادرت بتأكيد احترامها لخيارات أبناء الجنوب، بل وسارعت إلى تسيير شركتها الوطنية لرحلات جوية منتظمة إلى الجنوب السوداني، وهي خطوة يمكن قراءة دلالتها من بين السطور. أما باقي الدول العربية، فيبدو ان الموقف المصري سيكون بمثابة البوصلة التي ستحدد خياراتها، فهي على الأرجح ستعلن أيضا الترحيب بما سيختاره أبناء الجنوب، وهي مواقف لن تكون بمنأى عن التأثيرات أن لم تكن الضغوط الدولية، خاصة الغربية ،التي تدفع نحو انفصال الجنوب عن الشمال. ومع اقتراب موعد الاستفتاء في جنوب السودان، نكون في أجواء أشبه بالاحتفال بإعلان انفصال الجنوب، في ظل خفوت الصوت الشمالى الذي يغري الجنوبيين على البقاء في دولة الوحدة، فللأسف الشديد، ومن خلال حوارات عدة مع اخوة من الشمال بدا ان انفصال الجنوب، ربما يزيح عن كاهلهم عبئا، يريحهم من صداع كان سببا في حرب أهلية استمرت عشرات السنوات. لكن غاب عن الجميع سواء وسط الإخوة السودانيين في الشمال وفي مصر وباقي البلدان العربية، ان انسلاخ الجنوب سوف يفتح أبوابا لا قبل لأحد بها، عندما يطالب آخرون بحصتهم من أرض السودان مترامية الأطراف، وهي مطمع يتربص به كثيرون ،خاصة فيما وراء الجوار السوداني، وستدفع الخرطوموالقاهرة فاتورة باهظة في ملف مياه النيل أولاً، ومن دوامة عدم الاستقرار في المنطقة ثانيا، في ظل توقع العديد من المحللين اندلاع التوترات والصراعات القبلية في أوصال الدولة الوليدة التي لن تمتلك مقومات الدولة الحقيقية. المصدر: البيان 15/8/2010