كلما اقترب موعد الاستفتاء على مصير جنوب السودان، اتضح أن هذا الاستفتاء قد لا يتم في موعده بسبب المشكلات التي تعترضه، والتي كان يفترض أن تحل قبل حلول الموعد في التاسع من يناير/ كانون الثاني المقبل، واحدة من هذه المشكلات تتبدى في الاستفتاء الآخر المتعلق بمصير منطقة أبيي، الذي تأكدت الخلافات العميقة بشأنه، والذي يفترض أن يجرى قبل إجراء الاستفتاء الأول . الاستفتاءان المذكوران هما استحقاقان من استحقاقات “اتفاقية السلام الشامل" لعام 2005 التي رعتها وأشرفت عليها الولاياتالمتحدة، وهي التي وضعت فيها أسس كل الخلافات الحالية بين الشريكين، وذلك لتضمن في نهاية المطاف تحقيق أهدافها هي وليس أهداف السودانيين . لقد أرادت ضم منطقة أبيي الغنية بالنفط إلى الجنوب ثم فصل الأخير عن السودان، ثم التفرغ لدارفور لفصلها أيضاً . كل ذلك تحقيقاً لأهداف أمريكية تخص القارة الإفريقية كلها، وضماناً لاستمرار هيمنتها على المنطقة العربية في الوقت نفسه . ادعت “اتفاقية السلام" المذكورة أن هدفها الأول هو إنهاء الحرب الأهلية وإحلال السلام في السودان، لكن المتابع لمجريات الأمور في السنوات الخمس الماضية يخرج بنتيجة واحدة لا تقبل التأويل، وهي أن “السلام" الذي قررته أمريكا للسودان ووضعت أسسه في الاتفاقية التي رعتها هو السلام القائم على تفتيت السودان، حيث لا فرصة لأي “سلام" إن لم يوصل إلى انفصال الجنوب بعد ضم منطقة أبيي إليه . هكذا يبدو “إنهاء الحرب الأهلية" مجرد هدنة تتيح الفرصة لتحقيق الانفصال، وإلا فإن العودة إلى الحرب الأهلية ستكون مؤكدة، وفي هذه الحدود تحركت وتتحرك الدبلوماسية الأمريكية . في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التقت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون نائب الرئيس السوداني على عثمان طه، حيث نقلت إليه موقف الإدارة الأمريكية الذي لخصته بقولها: “إن مساعدة الحكومة السودانية في استفتاء الجنوب فرصة لتحسين علاقات السودان مع الولاياتالمتحدة" . جاء ذلك في شكل “محفز" للنظام السوداني لتمرير الاستفتاء كما تريده واشنطن وكما يريده زعماء “الحركة الشعبية لتحرير السودان"، لكنه في حقيقته تهديد شبه صريح بأن موقفاً عكس ذلك سيحمل إساءة للعلاقات بين البلدين وما يترتب على تلك الإساءة . لكن صحيفة “نيويورك تايمز" (13/9/2010) كانت قد ذكرت أن حزمة الحوافز الأمريكية التي عرضتها الإدارة الأمريكية عبر مبعوثها سكوت غريشون “تتخطى كل المسافات لتطبيع العلاقات وإلغاء الديون ورفع العقوبات وإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب" إذا ما قبل النظام بانفصال الجنوب وإنهاء العنف في دارفور . إلى جانب ذلك، ذكرت الصحيفة أن كلينتون رأت أنه “لا مفر من أن يصوت السودانيون الجنوبيون للانفصال، وهذا سيثير مشكلات معقدة" . أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فقال في لقاء تلفزيوني مع ناخبين أمريكيين، يوم 14/10/2010: إن إدارته تستخدم عدة وسائل دبلوماسية لضمان إجراء “استفتاءين سلميين" في السودان في يناير/ كانون الثاني المقبل، مؤكداً على أن “الوضع في السودان من المسائل التي تثير أكبر قلق لديهم" وأن “هذه واحدة من أعلى أولوياتنا" . وبعد أن تحدث عن مليوني قتيل سقطوا في الحرب بين الجنوب والشمال، وأن ملايين آخرين قد يموتون إذا تفجر العنف من جديد، أضاف: “من المهم لنا أن نمنع هذه الحروب ليس فقط من أسباب إنسانية، بل أيضاً من المصلحة الذاتية للولايات المتحدة، لأنه إذا تفجرت الحرب هناك فإنها قد تكون لها آثار مزعزعة للاستقرار توجد مجالاً أوسع لنشاط إرهابي قد يصل في نهاية المطاف إلى بلدنا" . سؤال لا بد من أتوجه به إلى أولئك الذين رأوا، والذين لا يزالون يرون أن باراك أوباما رئيس أمريكي “مختلف" عن أسلافه، ليقولوا لي: من قائل المقتبس السابق: باراك حسين أوباما أم جورج دبليو بوش؟ مهما يكن، فإن كلام أوباما، وقبله كلام كلينتون، يحملان معنى واحداً هو أن السلام الذي تتحدث عنه إدارة أوباما في السودان هو “السلام الأمريكي"، مثلما أن السلام الذي تتحدث عنه في أفغانستان هو أيضاً “السلام الأمريكي"، أما السلام الذي تريده في “الشرق الأوسط" فهو لا شيء غير “السلام الأمريكي الإسرائيلي" . أوباما تحدث عن مليوني سوداني ماتوا في الحرب السابقة، التي لم تكن واشنطن ولا تل أبيب بعيدة عنها . وفيما يشبه “التهديد" وليس أبداً التحذير تحدث عن ملايين آخرين إذا تفجرت الحرب من جديد، أي إذا لم يقبل انفصال الجنوب، كأنها تقول للانفصاليين: أشعلوها ونحن معكم . لم يتحدث أوباما عن ملايين العراقيين الذين قتلهم الأمريكيون والذين ما زالوا يقتلون في العراق . ولم يتحدث أوباما عن ملايين الأفغان الذين قتلهم الأمريكيون، وما زالوا يقتلون في أفغانستان . لكن أوباما، كغيره من الرؤساء الأمريكيين، يمتلك شيئاً غير الشجاعة ليعلن أن الأسباب الإنسانية ليست هي كل أسباب سياساته تجاه السودان، بل “المصلحة الذاتية" للولايات المتحدة، المصلحة التي تتمثل في الخوف من وصول “النشاط الإرهابي" إلى بلاده وليس النفط أو الهيمنة . فيا للمصادفة العجيبة، إنه السبب الوحيد الذي في حوزتها اليوم، والذي كما يبدو أنه سيظل لمستقبل غير قريب . السياسات التي تتبعها أمريكا إزاء السودان، قبل أوباما ومعه، تطرح سؤالاً جوابه واضح ومعروف: هل حقاً تريد أمريكا إحلال السلام في السودان؟ المصدر: الخليج 20/10/2010