((نصر هلال قمة القمم العربية))    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوثائق السرية الأمريكية عن عهد الرئيس نميري

أخيرا اقتحم الاستاذ محمد على محمد صالح، كبير مراسلى صحيفة ( الشرق الأوسط ) بالولايات المتحدة، عرين الأسد، إذ شرع مؤخرا فى ترجمة و استعراض و نشر التقارير التى بعث بها – من الخرطوم إلى واشنطن- دبلوماسيو و استخباريو حكومة الولايات المتحدة خلال عهد الرئيس السابق جعفر نميرى في منتصف سبعينات القرن الماضى، وذلك بعد أن فرغ من معالجة وثائق مراحل ما قبل و بعد الاستقلال.
و كان محمد قد بسمل و حوقل و هلل وكبّر ثم بدأ في فض مغاليق الإرشيف القومى الأمريكى السوداني و بسط محتويات الوثائق المتعلقة ببلادنا. و كنت قد كتبت فى زاويتي الأسبوعية ( غربا باتجاه الشرق ) قبل خمسة أشهر مشيرا و معلقا و منوّها بالحلقات المتسلسلة التى يكتبها الأستاذ محمد علي محمد صالح تحت عنوان: ( وثائق أمريكية ) و التى تُنشر في الصحافة المحلية وفى عدد من مواقع الشبكة الدولية، و تضم في مجملها ترجمة واستعراضا لبعض الوثائق التى تغطى الاوضاع السياسية في السودان عبر حقب تاريخية متعددة. و ذكرت للقارئ بأن في الولايات المتحدة - كما هو الحال في غيرها من الدول المتقدمة - تشريعات عريقة تلزم السلطة التنفيذية برفع ستار السرية عن ملفاتها و مستنداتها الرسمية و إتاحة حق الاطلاع عليها للباحثين و لعامة الجمهور خلال فترات زمنية محددة. والقانون الذي يكفل هذا الحق، المسنود بالدستور، في الولايات المتحدة هو قانون حرية المعلومات لسنة 1966.
و قد أخذ الاستاذ محمد على محمد صالح على عاتقه الاستفادة من هذا القانون و نقل الوثائق السودانية بقضها و قضيضها من حرج الإضبارات إلى فرج الإصدارات، ومن رطين العُجمان إلى رصين العُربان، حتى يتيسر لجميع السودانيين دون فرز الاحاطة بطواياها و خباياها، فلا تكون مادة الوثائق دُوْلة بين الأصفياء من خاصة الناس دون السواد من عامتهم. و أشهد له أنه عانى ما عانى و هو يتوخى إلى الأمر مُدخل صدق و يلتمس منه مُخرج صدق يرعى وجه الله ومقتضى المنهج العلمى القويم والبحث التاريخى الراشد. وأذكر أن حمار الشيخ محمد قد وقف، غير مرة، عند عقبات مستحكمة، لا سيّما عندما وجد في بعض الوثائق الأمريكية عبارات وأوصاف تمُجها الفطرة السليمة ويأباها الخلق القويم، كنعت الدبلوماسيين والإستخباريين الأمريكان لبعض القادة السودانيين البارزين بالشذوذ الجنسى، وما عكسته الوثائق من تورط أثيم فى تحليل شخصيات بعض هؤلاء القادة باستخدام معايير عرقية واجتماعية مسيئة، من قبيل قولهم أن سياسيا معينا يُعانى عقداً نفسية لأسباب خاصة به !
مرحلة لا تزال حية
وأبرز ملامح الاختلاف فى مرحلة السبعينات المايوية، التى تعالجها الوثائق، عن المراحل السابقة هو أن أحداثها و تداعياتها المرصودة لا تزال حيّة متقدة فى أذهان الكثيرين، كما أن شخوصها و رموزها، الذين تتناولهم التقارير بالتحليل والتقويم، لا يزالون أحياء يرفلون في ثياب العافية، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، بل أن بعضهم لا يزال ناشطا في العمل السياسى ويشغل مواقع دستورية رفيعة تحت نظام الحكم الحالى، وأبرز مثال على ذلك هو الدكتور منصور خالد، مستشار رئيس الجمهورية الحالى، الذى ورد اسمه أربع عشرة مرة ضمن سطور أربعة تقارير قصيرة، لا يتعدى كل منها صفحة واحدة، بعث بها السفير الأمريكى في الخرطوم الى واشنطن خلال فترة لم تتعد الأسبوعين، وهى الفترة الممتدة من 14 حتى 28 يناير 1975. و كفى بقارئ ترجمات الوثائق واستعراضاتها أن يتأمل بعض عناوينها الفرعية ليتوفر لديه الإحساس الذى نعنيه بحيوية الموضوعات و ارتباطها بالحاضر المعاش، في وقت يفترض فيه أنها لا تعدُ كونها محض مواد إرشيفية تاريخية عفا عليها الزمن، و من أمثلة هذه العناوين الفرعية: ( عزل عشرة وزراء منهم منصور خالد / رأي السفير الأمريكى في منصور خالد / رأي منصور خالد فى أريتريا / هل تعمد نميرى عزل “ أولاد الغرب"؟ / السودان وإسرائيل واليهود / بعض آراء نميري تبسيطية وفيها اضطراب عقلي / أثرى نميري شخصيا من صفقة خاشقجي / قوات سودانية الى السعودية فى حالة حدوث صراع داخل العائلة المالكة ).
وبخلاف الوثائق المتقادمة التى تناولت السنوات السابقة واللاحقة لمرحلة الأستقلال، فإن وثائق منتصف السبعينات تتيح فرصة ذهبية أمام أولئك الذين عاصروا الوقائع والأحداث وتعرفوا على معالمها، لتحليل المحتوى النوعى لهذا الصنف من التقارير أجمالا، والوثائق المترجمة تخصيصاً، وتقويمها تقويماً موضوعياً. وربما وجد كاتب هذا المقال، الذى تنقل خلال تلك الفترة بين المرحلتين الدراسيتين المتوسطة والثانوية بمدينة عطبرة، وهي مدينة ينشط الوعى السياسى لأبنائها ويشتعل عند مراحل مبكرة للغاية، نفسه فى وضع يمكنه من أن يدلى بدلو فى أمر هذه الوثائق.
تقارير ضعيفة
و جميع التقارير مصاغة تحت مقدمات ديوانية ترد على النحو التالى: ( من السفير – الخرطوم، إلى وزير الخارجية – واشنطن، الموضوع: كذا ). أول انطباع خرجت به من الوثائق القليلة التى فرغ من معالجتها الشيخ محمد و التى تغطى العام 1975 كما أسلفنا هو أن كتبة التقارير، سواء كان هو السفير شخصيا أو عناصر أخرى داخل سفارته، يفتقدون المعرفة والإلمام الكافى بالمسرح السياسى السودانى والعناصر التى تلعب الأدوار الرئيسية على خشبته. كما أن التقارير التى يبعثون بها الى واشنطن تتسم فى بعض الأحيان بالضعف الظاهر و السطحية و البساطة. من شواهد هذا الضعف النقاط الواردة في المذكرة التى كتبها السفير والمؤرخة 27 يناير 1975، وتعالج المذكرة التعديل الوزارى الكبير الذى كان الرئيس السابق قد أدخله على حكومته في ذلك العام. والسفير يبلغ رؤساءه في واشنطن من خلال تلك المذكرة أن للرئيس نميرى أهدافا معينة من وراء التعديل منها: ( التخلص من الوزراء الضعفاء ) فى الحكومة، ومن هؤلاء الوزراء الضعفاء، بحسب التقرير،: د. جعفر محمد على بخيت وزير الحكومة المحلية و عمر الحاج موسى وزير الثقافة والإعلام! والحقيقة التى لا مراء فيها، لكل من عرف نظام مايو و تاريخه و تركيبته السياسية، أن هؤلاء الوزراء المعزولون لم يكونوا في واقع الأمر ( وزراء ضعفاء )، بل أنهم على العكس تماما شكلوا مراكز قوة محورية في ذلك العهد، وأن عزلهم جاء أساسا على خلفية ذلك المُعطى السياسى، سعيا من رئيس الجمهورية لتحجيمهم وكسر شوكتهم وتطويق نفوذهم المتفاحش في جهاز الدولة! و كان الرئيس السابق نميرى قد وجه خطابا الى الشعب في مناسبة ذلك التعديل الوزارى، وبخ فيه بعض وزرائه على الملأ، ونسب إليهم المبالغة في تقدير قوتهم السياسية وزعمهم فى مجالسهم الخاصة أنهم القادة الحقيقيون للنظام وأهل الحل والعقد فيه وأن النميرى لا يبرم أمرا بغير مشورتهم، كما وبخ وزير خارجيته المُقال د. منصور خالد واتهمه بإدمان الترحال والتسفار الى درجة أنه لم يجد حرجا من حضور مؤتمرات كان تمثيل الدول الأخرى فيها على مستوى السفراء. وصمت منصور دهرا قبل أن يخرج على الناس بكتاب اتهم فيه المرحوم محمد محجوب سليمان المستشار الصحفى للرئيس بأنه هو الذى كتب ذلك الخطاب، وتصدى له بكلام غليظ. ولم ينكر المستشار الراحل قط أنه هو الذى صاغ الخطبة العصماء. و صفوة القول أن تلك الفقرة في الوثيقة الأمريكية تشير بوضوح الى أن كتبة تلك التقارير لم يكونوا في حقيقة الأمر على درجة كافية من التمكّن أو الدراية بديناميات النظام و توازنات القوة داخل أبنيته.
ومما يعضد من عقيدتى في ضعف إلمام الدبلوماسيين والإستخباريين الإمريكيين بالواقع السياسى السودانى ما ذكرته الوثيقة، فى صدد تحليل طبيعة وأبعاد ذات التعديل الوزارى فى حكومة الرئيس نميرى عام 1975، من أن التعديل ربما يؤشر الى ( إتجاه نحو اليسار )، إذ يقول التقرير: ( .. و قال مراقبون إن التعديل الوزارى حوّل نميرى نحو اليسار ). ثم يضيف التقرير: ( يُقال أن بدر الدين سليمان و أحمد عبد الحليم كانا شيوعيين قبل محاولة إنقلاب 1971، وإذا كان ذلك صحيحا يبدو أنهما قطعا صلتهما بالشيوعية. ولهذا نحن لا نريد أن نحكم عليهما ). وكان بدر الدين سليمان قد دخل في الحكومة الجديدة وزيرا للصناعة بينما تولى المرحوم أحمد عبد الحليم وزارة الثقافة و الإعلام. و عوام المهتمين بالشأن العام والمتابعين لمجرى الحياة السياسية في السودان يعلمون الخلفية السياسية للشخصيتين المذكورتين، من حيث أنهما انتميا الى الحزب الشيوعى السودانى لفترات محدودة ثم تركاه في مرحلة مبكرة، خاصة في حالة بدر الدين سليمان الذى كان قد غادر الحزب الشيوعى فى انقسام مشهود عام 1952، أشتهر فى أدبيات السياسة السودانية بإسم “ إنقسام الجبهة الوطنية “ في معية أبى المعالى عبد الرحمن و آخرين، و لم تعد له أية صلة بالشيوعية منذ ذلك التاريخ السحيق. و قد كان الظن أن الحصول على مثل هذه المعلومات ليس مما يشق على أساطين السفارة الأمريكية من دبلوماسيين و إستخباريين. و لكن الوثائق تنبئنا، و نبأ الوثائق لا يقبل الحِجاج، بأن ظننا لم يصادف محله، فها نحن نراهم يلجأون إلى فطيرٍ من الكتابة التحليلية الضبابية الغبشاء.
وهناك جوانب أخرى في التقارير الامريكية حول التعديل الوزارى تثير العجب، من شاكلة ما قرره هؤلاء في تحليلاتهم من أن إقالة وزير الحكومة المحلية سببه ( كثرة الشكاوى من مشاكل المعيشة اليومية التى وصلت نميرى )، مما يبعث علي التساؤل عما إذا كان هؤلاء الدبلوماسيون و الإستخباريون قد ملكوا الحد الأدنى من الدراية بآليات الجهاز التنفيذى و إختصاصاته و طرائق عمله، فمما هو معلوم من شئون الحكم بالضرورة أن وزارة الحكومة المحلية كانت على طوال سنى وجودها، و حتى تاريخ تصفيتها و إستبدالها بوزارة العلاقات الإتحادية، من أضعف و أقل وحدات الجهاز التنفيذى صلة و مسئولية عن ما يمكن وصفه ب ( مشاكل المعيشة اليومية )! و مما نتعلمه من الوثائق الأمريكية أن مادة تقارير سفراء الدول الكبرى لحكوماتهم لا تعدو، في بعض الأحيان، أن تكون صدىً و تكرارا لما يردده الأفراد العاديون في مجالس المدينة بعد غروب الشمس، ومن شواهد ذلك الجزئية التى وردت في تقرير للسفير الأمريكي، حيث كتب: ( لا نعتقد أن منصور خالد سيبقى طويلا فى وزارة التربية، و توجد أشاعة أنه يبحث عن وظيفة في منظمة دولية )! و نُحس إحساسا طاغيا بأن التاريخ ما فتئ يراوح مكانه في السودان عندما نقرأ هذا الجانب من تقرير السفير: ( و نلاحظ أن أربعه من الوزراء الذين عُزلوا من الوزارة من غرب السودان وهم: أحمد بابكر عيسى، موسى عوض بلال، إبراهيم منعم منصور، و محمود حسيب. يزيد هذا من الإنطباع العام بأن نميرى حساس أكثر مما يجب تجاه “ أولاد الغرب “ ).
معلومات حساسة مصدرها الوزراء
ويلفت النظر من مطالعة الوثائق أن بعض الوزراء لم يكونوا يترددون أو يستنكفون عن الإدلاء بمعلومات شديدة الحساسية الى الأمريكيين، الذى لم يترددوا بدورهم في تدوينها و إرسالها الى واشنطن. كتب السفيرفى إحدى تقاريره: ( تحدثت الى منصور خالد و إبراهيم منعم منصور، و قال الاثنان أن سبب إقالة نميرى لهما كان قرض المائتى مليون دولار من صندوق النقد السعودى ). ثم كتب: ( قال لى منصور خالد أن نفوذ المليونير السعودى عدنان خاشقجى يزيد كثيرا، و أشار الي نشاطات شركته “ تراياد “ ). و يبدو من السياق العام للوثائق أن منصور خالد لم يكن يجد حرجا فى مبادلاته الكلامية مع المسئولين الأمريكيين من أن يُظهر رئيسه، أى رئيس الجمهورية الذى كان منصور يتولى تحت قيادته منصبا دستوريا رفيعا عند مباشرته تلك المبادلات، فى صورة قاتمة كرجل فاسد أو قابل للفساد. و لعل فى ذلك ما يفسر النظرة الممعنة فى السلبية التى عكستها الوثائق تجاه الرئيس السابق، و التى تكشف بجلاء أن الامريكيين لم يكونوا يبطنون للرئيس أى قدر من الإحترام، و آية ذلك أنهم يرمونه في تقارير عديدة بأنه ( مضطرب العقل و سايكوباتيك )، و يصفون أراءه في الشئون الخارجية بأنها: ( آراء ذات أحجام أولمبية )، وإنها (تعكس نظرة تبسيطية للقضايا الاقليمية )، وإنه ( يقول أشياء تدعو إلى الإستغراب )، وأن آراءه ( عفوية و غير مدروسة )! ثم أنهم لا تأخذهم ذرة شك في أنه رجل فاسد، فالسفير يكتب في أحدى التقارير: (تعضد هذه المعلومات الجديدة معلومات أخرى ارسلناها لكم سابقا بأن نميرى أثرى شخصيا من قرض المائتى مليون دولار ).
ووثائق السبعينات تعج بأخبار معاملات قروض البترودلار التى تدفقت على السودان في تلك الحقبة، وممارسات الملياردير السعودى عدنان خاشقجى و الرئيس نميرى ووزير شئون رئاسة الجمهورية الراحل بهاء الدين محمد إدريس، و تعالج جوانبا من هذه الممارسات في صيغ إستخبارية تسندها عبارات من نوع: ( أجرينا تحرياتنا وعلمنا ) و( جارى البحث عن معلومات أكثر). وأغلب هذه المادة، على أية حال، لم تعد أسرارا مستغلقة بعد أن خرجت أخبارها الى العلن بعد إنتفاضة أبريل 1985. ولكن هناك جزئيات هامة أبرزتها الوثائق الى السطح للمرة الأولى مثل صفقة سعودية مقدارها مائتان و ثلاثون مليون دولار لشراء معدات للقوات المسلحة، أختيرت شركة دويتش لألمانية لتوريدها. تقول الوثائق الإمريكية أن السبب الرسمى المعلن لأختيار دويتش، دون غيرها من الشركات العالمية، هو أن هذه الشركة أمدت مصر بنفس المعدات و الاتجاه هو توحيد المعدات العسكرية بين البلدين. و لكن الحقيقة – بحسب التقرير الأمريكى – هو أن عدنان خاشقجى و شركته تراياد هم وكلاء الشركة الألمانية فى السودان، و أن الأمر في حقيقته لا يعدو أن يكون أمر عمولات وتربّح شخصى!
ولكن جزئية واحدة حيرتنى بعض الشئ أذ قرأت فى أحدى التقارير إخبارية عن أجتماع معين دارت وقائعه في القصر الجمهورى. يقول التقرير أن الإجتماع حضره – ضمن أخرين – شخص إسمه سالم جبران عيسى، و تعرّفه الوثيقة على أنه المستشار الخاص لرئيس الجمهورية. وفى ذاكرتى أن الشخص المذكور لبنانى الجنسية، و كان إسمه يتردد على صفحات المجلات العربية التى كانت تصدر في لندن و باريس مقترنا ببعض الصفقات المالية و التجارية، وكان الظن أنه واحد من السماسرة الدوليين الذين يحومون حول حمى الصفقات البترودولارية التى باضت و أصفرت فى أعقاب حرب اكتوبر 1973. ولم يكن لى علم بأن هذا الشخص قد تقلد منصبا دستوريا رسميا فى الحكومة السودانية مستشارا لرئيس الجمهورية. و لو صحت هذه المعلومة فإنها تندرج في سلك العجائب المايوية، وعجائب مايو لا تنقضى. ولعل واحدا من شهود تلك الفترة - وهم كثر - يعيننا بتوضيح يعالج أمر هذه المعلومة الغريبة و يزيح خمارها.
غير أن هناك جانبا شديد الغموض من جوانب العلاقات السودانية السعودية أماطت عنه الوثائق حجابا سميكا وألقت عليه أضواء كاشفة. و قد أدهشنى بصفة خاصة خبر إتفاق أشار اليه السفير الأمريكى في رسالة بعثها الى حكومته كتب فيها: ( تقول مصادرنا ) و ( حسب معلوماتنا ) (فإن هناك معلومات عن اتفاق بين الرئيس نميرى وولى العهد السعودى الأمير فهد بن عبد العزيز بأن تقوم القوات المسلحة السودانية، في مقابل المنح والقروض التى يسهلها الأمير للسودان، بالتدخل لدعم ولى العهد فهد بن عبد العزيز و شقيقه الأمير سلطان، في مواجهة الحرس الوطنى السعودى الذي يقوده شقيقهما الأمير عبد الله، وذلك في حالة حدوث توتر بين أبناء الملك عبد العزيز). و لكن السفير الأمريكى يعود فيكتب: ( لسنا متأكدين من المعلومات التى وصلت الينا عن تفاهم سرى يقضى بإرسال قوات سودانية الى السعودية في حالة حدوث ظرف طارئ. وربما تريدون سؤال سفيرنا في الرياض عن هذا الموضوع )!!
سيل سيتدفق
والأبواب مشرعة على مصاريعها أمام النابهين من المحققين الصحافيين والباحثين الأكاديميين، وغيرهم من المهتمين بالدراسة و التوثيق، لتحرى الإفادات المنشورة والمنظورة وتمحيص معالمها وتقصى مغازيها، ومضاهاتها بشهادات الأحياء من الشهود والمُحرز من وثائق الدولة، واستيفاء الحقائق من مكامنها و مظانها. و مهما يكن من أمر، فأن الذى نعلمه يقينا هو أن نهر الوثائق السودانية الأمريكية، وقد أنزاحت من أمامه الحواجز و السدود، سيستمر في الجريان و سيتوالى مدده تباعا، دفاقا مهراقا
المصدر: جريدة الاحداث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.