السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بحوث: مناهج التأصيل الإصلاحية

وبعد، فهذه دراسة موجزة تقدم التأصيل منهاجاً لإصلاح الدولة والمجتمع، ولتزكية النفوس والعقول، وذلك في مواجهة مشروعات الإصلاح الأخرى، المدعاة من الداخل، أو المستقاة من الخارج.. وذلك في ضوء تعريف شامل بمفهوم التأصيل ومطلوبه، ومن خلال حركة التأصيل بأدواتها وخططها وأعمالها..
أولاً: التأصيل - تعريفه ومطلوباته وخططه
التأصيل في اللغة والإصطلاح:
التأصيل في اللغة مشتق من (أصل) الشيء أي أساسه الذي يقوم عليه، ورجل (أصيل) الرأي أي محكم الرأي.. ومجد (أصيل) ذو أصالة، (والأصالة) تعني فيما تعني الثبات وجودة الرأي، وهي كذلك القاعدة والأساس المتين الذي يقوم عليه الشيء..
وأصْلِيٌّ: ما كان أصلاً، وتعليم أصْلِي: أساسي، وعدد أصْلِي: لا يقبل القسمة إلا على نفسه..
وأصول: العلوم: القوانين والقواعد التي تبنى عليها العلوم كأصول الفقه..
أصيل أصلاء: شريف الأصل عريق..
وأصَّلَ يؤصِّلُ تأصيلاً- الشيءَ: جعل له أصلاً ثابتاً يبني عليه..
وتأصَّلَ يتأصَّلُ تأصُّلاً- الشيءُ: صار ذا أصل ثابت([1])..
أما التأصيل في الاصطلاح، فهو وثيق الصلة بمعناه اللغوي، إذ هو بناء مناهج الحياة على الأصول الثابتة للمجتمع أو الأمة، أو هو بعبارة أخرى أن نردَّ ما ندَّ (أي خرج) عن أصله إلى هذا الأصل مرة أخرى.. والأصل أو الأصول المقصود برد الأشياء إليها، لدى المسلمين، هي مصادر الشريعة الإسلامية، حيث الأصل الأول هو القرآن الكريم والأصل الثاني هو السنة النبوية، ثم تأتي أصول التشريع الأخرى تبعاً لهذين الأصلين كالإجماع والقياس فيما ليس فيه نص قرآني أو نبوي. والأصول في مجتمع تعددي تتعايش فيه الأغلبية المسلمة مع غيرها من الأقليات غير المسلمة، هي الأصول الإسلامية وأصول الأعراف الكريمة، أو ما كانت أصوله عائدة إلى مكارم الأخلاق من الموروثات الشعبية والتقاليد الكريمة..
وبعبارات أخرى فإن التأصيل هو إعادة كليات الحياة كلها، لا سيما الحياة العامة، إلى أصول الأمة الدينية وما تأسس عليها من أعراف كريمة. أو هو إرجاع مناهج الحياة، وما يتفرع عنها من قوانين ونظم وخطط، إلى هذه الأصول.. والتأصيل من وجه آخر هو إعمال الأصول في القضايا المعاصرة، مع الانتفاع من المعرفة والتجربة البشرية، فهو تأصيل مستنير منفتح على التحديث الرشيد..
مطلوبات التأصيل:
التخطيط الشامل للتأصيل:
وهو يستهدف تحقيق المقاصد العليا للتأصيل من إقامة مناهج الحياة على أصول الأمة، لإنتاج حضارة قيمية تجمع بين معطيات العلم المادي ومرجعيات العلم الديني في سياق حضاري واحد..
الخطة الخاصة للتأصيل:
أعمال نموذجية للتأصيل:
1- تأصيل المشاركة السياسية (الشورى)([2]).
2- تأصيل النشاط الاقتصادي والمالي([3]).
3- تأصيل النظام الاجتماعي (الأسرة)([4]).
4- التأصيل الثقافي والاجتماعي لمواجهة آثار العولمة([5]).
5- تأصيل علاقة الدين بالدولة في اتفاقية السلام([6]).
ثانياً: حركة التأصيل
اتصلت حركة التأصيل الشاملة منذ قيام ثورة الإنقاذ بإعلانها تحكيم الشريعة الإسلامية في مناهج الحياة كافة: القوانين والنظم، الخطط والسياسات، العمل السياسي والنشاط الاقتصادي، الحركة الثقافية والتعليمية، الإعلام والمعلومات.. وذلك بتركيز على الحياة العامة.. أما الحياة الخاصة فقد توجهت إليها أنشطة الدعوة والتزكية. وازدياد المساجد ومرتادوها وتنامي جمعيات القرآن الكريم دليل على ذلك.. بحسبان أن تزكية الأسرة هي تزكية المجتمع، والإصلاح في المجتمع هو مصدر الإصلاح في الدولة..
وقد برزت آثار حركة التأصيل كعمل فكري وتطبيقي في تأصيل القوانين، وتأصيل النشاط الاقتصادي، وهما الحقلان اللذان كان يقع فيهما التخليط بين ما هو علماني المرجعيات وما هو أصلي يرجع إلى أصول ديننا في الكتاب والسنة..
وأخذت تتوالى الإصدارات والملتقيات، وهي تجتهد في دفع حركة التأصيل.. وقامت في الدولة مؤسسات تأصيلية، ونشأت في المجتمع منظمات مشتغلة بالتأصيل. يجري بينها تنسيق الجهود العلمية..
وجاءت ثورة التعليم- العام والعالي، وهي تتجه إلى تأصيل المعارف والبحوث، ونشطت حركة التعريب كأحد روافد التأصيل، ودخلت الثقافة الإسلامية كأحد مناهج التعليم الجامعي والمطلوبات الجامعية..
أما في العمل السياسي فقد نشأ مفهوم تأصيلي للسياسة، من حيث هي إدارة الشؤون العامة وفق الحق والصدق، وجرى تأصيل اللامركزية- (الحكم الاتحادي والحكم المحلي)، من حيث هي توخٍّ لإحقاق الأمر الإلهي بالعدل، سواء في تقسيم السلطات أو توزيع الثروات إعمالاً لقوله تعالى، {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى}، وقوله عز وجل {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به}.. كما جرى تأصيل المشاركة السياسية على هدى نظام الشورى في الإسلام {وأمرهم شورى بينهم}.. وارتفع التأصيل بحقوق الإنسان إلى منزلة الحرمات التي يتعبد الناس لله تعالى بأدائها ورعايتها، وبما يفوق جهد البشر المجرد في الصكوك الدولية بأمد بعيد..
أما السلام- والجنوح إليه من خلال مفاوضاته واتفاقاته، فقد أحيط بتأصيل متفرد، تقدمه التجربة السودانية للعالم، كقيمة إسلامية عليا، ترعى العدل والإحسان، وتحكم بين الناس جميعاً وفقهما..
وقد أبرزت حركة التأصيل، من واقع تدين الشعب وتوجيهات الدين، مقدرة الإسلام الفائقة على تنظيم مجتمع متنوع الثقافات ومتعدد الملل كالسودان، على قاعدة التعايش الاجتماعي السلمي والمساواة في حقوق المواطنة وواجباتها..
حتى علاقات السودان الخارجية ارتبطت بالقيم الأخلاقية والقواعد الإيمانية التي يرعاها المسلم في التعارف والتواصل والتعايش مع المجموعات الأخرى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم}[الحجرات]..
وظل الجهاد مرتبطاً بقيم الدين في رد البغي وصد العدوان والدفاع عن الحقوق، ولذلك جاء الجنوح للسلم نزولاً على الأمر الإلهي: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}، ورجاءً في البشرى الإلهية {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة......}..
وقد رعت حركة التأصيل النشاط الديني الأهلي، سواء لدى جماعات الدعوة أو المؤسسات التعليمية والتربوية، ولقي كتاب الله الكريم، في الحفظ والتلاوة والتفسير، عناية فائقة، كما وجدت السنة النبوية، في الحديث والسيرة، رعاية لائقة..
وقد أنتجت حركة التأصيل المؤسسية، حركة اجتماعية موازية في نشر مظاهر التدين، وتعظيم الشعائر، بين الشباب والنساء، مما يعد تحصيناً ذاتياً للمجتمع في وجه الغزو الثقافي العلماني المجتاح، وهو جهد لابد من استكماله وتسديده..
وقد كانت للإدارة العليا للتأصيل (مستشارية التأصيل) أعمالها الفكرية النموذجية، سواء في الإصدارات أو أوراق العمل.. ومن ذلك كتاب الشورى في تأصيل العمل السياسي، وكتاب الأسرة في تأصيل الحياة الاجتماعية([7])، وورقات عمل ومخاطبات في التأصيل الثقافي والاجتماعي، وفي التأصيل الاقتصادي والمالي.. هذا فضلاً عن كتاب التأصيل الدوري الذي يعرض خطط التأصيل ونماذج الأعمال التأصيلية، وهناك الأعمال التأصيلية للهجرة النبوية، وصحبة الصحابة، وتراث الخلوة..
ثالثاً: التأصيل للانتقال من التخلف إلى التقدم
الأمة الإسلامية في عمومها اليوم متخلفة عن موجه الثورة التقنية، التي تتقدمها تقانة المعلومات، وهندسة الموروثات، وهي تبعاً لذلك متخلفة في التنمية والتحديث.. وذلك على خلفية تاريخية من تخلفها عن موجة الثورة الصناعية، وما أنتجته من بحث وتطوير في وسائل الإنتاج ومصادر الطاقة.. وهذا التخلف المادي لهذه الأمة هو المصير الحتمي لبعدها المنهجي والزمني الطويل عن مصادر القوة الكامنة في دينها.. وهي التي قامت عليها أول حضارة عالمية في التاريخ تجمع بين معطيات العلم المادي ومرجعيات العلم الديني في منظومة واحدة من القيم تستوعب سائر وجوه الحياة والنشاط البشري. وهي الحضارة التي أخرجت أوربا من عصورها المظلمة، فنقلت إليها حرية البحث العلمي أمام الجهالة والخرافة، وعلمتها الإصلاح الديني إزاء هيمنة الكنيسة، وألهمتها التحرر الاقتصادي من الاستعباد الإقطاعي، وساقت إليها التحرر السياسي من الاستبداد الملكي. ذلك بأن البعث الإسلامي كان بمثابة حركة تحرير للشعوب المستضعفة والمجموعات المضطهدة، فقد حرر القوميات العديدة التي كانت خاضعة لاستبداد الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية. وما كان لحركته التحريرية أن تفلح لولا تعاون تلك القوميات معها، بحثاً عن عدالة الإسلام، ذلك بأن قوة المسلمين العسكرية لم تكن متكافئة القوى مع جيوش الإمبراطوريتين العريقتين المتمرستين على الحرب بأقاليمهما (والعرب غرباء على تلك الأقاليم)- وتذكر المصادر التاريخية أن جيش المسلمين الذي حرر مصر من الحكم الروماني كان بالمئات بينما كان الجيش الروماني بعشرات الآلاف.. هذا بالطبع إلى جانب ما يمتلكه المسلمون من قوة العقيدة، وقد أعانهم عليها ما سبقهم إلى تلك الأمصار من أخبار عن عدالة الإسلام، التي هي ثمرة العقيدة..
وكان ذلك العدل الشامل معروفاً منذ عهد البعث الأول يوم أجاب ربعي بن عامر على القائد الفارسي رستم حين سأله عما أخرج المسلمين فقال ربعي (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)..
وأروبا في اقتباسها المعارف وحقوق الإنسان من المسلمين في عصر النهضة قد أخذتها كمبادئ وضعية مبتورة من مرجعياتها الإيمانية والأخلاقية، وهو ما آل إلى العلمانية من حيث هي مذهبية تقوم على المعرفة الدينية دون المعرفة الأخروية {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}.. ولذلك فإن الثورة الصناعية التي أنبنت على البحث العلمي التجريبي، ذي الجذور الإسلامية، قد حققت الارتقاء بمستوى الحياة المادية، وبوسائل الإنتاج والتنظيم والإدارة، ولكنها خلفت بنزعتها العلمانية آثاراً واسعة عميقة في الإخلال بثوابت القيم الأخلاقية، وهي تبحث عن المنفعة المادية، وتتوسل بالقوة المادية، في صراعها على مصادر السلطة والثروة. وهذا ما ولدَّ ظاهرة الرأسمالية العالمية. وكان نتاج هذا الصراع الرأسمالي انقسام العالم إلى شمال صناعي غني مستأثر بمقومات التقدم، وجنوب نام فقير تتسع الهوة الحضارية المادية بينه وبين الشمال كل يوم.. وقد تداعت نتائج هذا الصراع إلى تهديد البشرية بالخطر البيئي الماثل والخطر النووي المنظور.. فكأن هذه الحضارة المادية تحمل مقومات التقدم وبذور الفناء في آن واحد.
واليوم يصير للثورة التقنية آثار أوسع وأعمق على العالم بأسره، سواء في تغيير الاتجاهات الثقافية أو تبديل المناهج السلوكية.. وذلك في النزعة إلى عولمة العالم، بكل تعدديته الثقافية، وفق نمط الحياة الغربية.. وهي موجة جديدة للهيمنة تسعى لكسب مناطق النفوذ وتأمين المصالح.. وتتخذ لذلك منهجاً مزدوجاً: استخدام القوة العسكرية، وتجريب مشروعات الشراكة المزعومة، ومخططات الإصلاح المشبوهة.. وهي شراكة تفتقر إلى المحتوى في ظل علاقات التبادل الدولي غير المتكافئة، كما هو إصلاح سياسي يسعى لتبوئ النخب المستتبعة للغرب مواقع السلطة باسم التحول الديمقراطي. كما وهو إصلاح اقتصادي يطلق حرية الاستثمارات الاحتكارية للشركات الغربية وشركائها المحليين، على حساب العدالة الاجتماعية للأغلبية من الطبقات الفقيرة، باسم اقتصاد السوق. أما الإصلاح الاجتماعي المدَّعى فيعمد إلى إشاعة الإباحية الجنسية، وتحطيم التماسك الأسري والنسيج الاجتماعي باسم حقوق المرأة وتمكين الناشئة.. ويمتد مشروع الإصلاح التعليمي المزعوم لإحلال المبادئ العلمانية محل العلوم الدينية باسم حرية الوصول للمعلومات وحرية الفكر والعقيدة..
تأسيساً على حقائق هذا الواقع العالمي، يصير التأصيل (الذي هو بتعريف مجمل الرجوع إلى الأصول) ضرورة واقعية للأمة الإسلامية، وفريضة دينية على مجموعاتها. ذلك بأن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها. أما أولها فقد أصاب ذروة الإصلاح حين غيَّر ما بنفوس أفراده فغيَّر مجتمعه الصغير والكبير، وغيَّر من ورائه المجتمع العالمي.. {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}..
والتأصيل ليس رجوعاً جامداً بغير فهم أصيل للأصول، وإنما هو فهم واع لثوابت هذه الأصول، وتجديد حي في الوسائل والأدوات لإعمال هذه الأصول على متغيرات العصر، ومستجدات الواقع.. وذلك في انفتاح رشيد لاستيعاب العلوم والمعارف والتجارب البشرية النافعة على قاعدة نبوية حكيمة: (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها)..
العوامل المعينة على التأصيل:
تتضافر عدة عوامل داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، لتجعل حركة التأصيل ممكنة ميسورة، إذا توفرت قوة الإرادة وطاقة الحكمة، ويمكن تحليل هذه العوامل فيما يلي:
أولاً: اتسام الثورة التقنية نفسها بخاصية المرونة والانفتاح على التجارب الذاتية لكل المجموعات البشرية على اختلاف معتقداتها وثقافاتها.. وذلك بحيث يمكن للدول النامية الأخذ بأحدث المعطيات التقنية، متخطية إعادة التجريب لمراحلها التاريخية، متى ما توفرت بيئة البحث العلمي للتوطين التقني. والبلاد الإسلامية في شرق آسيا (ماليزيا، اندونيسيا، باكستان)، نماذج لمقدرة اللحاق بالتقدم التقني الذي يحافظ إلى حد كبير على الأصالة الثقافية.. وهناك دول أخرى غير إسلامية في هذه المنطقة (اليابان والهند) استطاعت أن تحدث التقدم التقني النسبي مع شيء من الحفاظ على هويتها الثقافية..
ثانياً: الموروث الحضاري الموروث للأمة الإسلامية في تلاقحها الثقافي، في عصر النهضة الإسلامية، مع الشعوب المحيطة بدولة الخلافة الإسلامية.. وقد كان منهاج ذلك التلاقح هو استيعاب المعارف والتجارب النافعة الأخرى، بعد تنقيتها من جذورها الوثنية، وصهرها في بوتقة منهاج التربية الإسلامية والمقاصد الإسلامية، ثم الوصول إلى الإبداع في الإنتاج الحضاري المستقل.. فلم تكن الحضارة الإسلامية ناقلاً محضاً لتلك المعارف والتجارب، وإنما كانت تلك الحضارة تملك كل مقومات الإبداع الذاتي.. فالمسلمون قد جدوا التجربة العلمية لدى الإغريق ذات خصائص وصفية تأملية، فأضفوا عليها الخصائص التحليلية التطبيقية، مما أنتج روح البحث العلمي الذي اعترف المفكرون الغربيون المنصفون بمرجعيتها الإسلامية.. واليوم فإن على المسلمين ألا يكتفوا بنقل التقانة، مجرد النقل، وإنما أن يوطنوا بيئتها البحثية وأدواتها التطبيقية، أسوة بمنهاج حضارتهم السالف.. فعليهم في تأصيل العلوم والتقانة تخليصها من نزعتها العلمانية، وربطها بعقيدة التوحيد، ثم تحويل أهداف البحث العلمي والتطوير من الاستخدام المطلق للأغراض العسكرية والتجارية إلى الأهداف الإنسانية العليا في توطيد دعائم السلام والأمن وبسط عدالة التنمية دونما إخلال بتوازن البيئة.
ثالثاً: وحركة التأصيل الشاملة يقتضيها واجب الدعوة والبلاغ أن تبرز نظرياً وعملياً تفوق المناهج الإسلامية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. فحقوق الإنسان في الإسلام، والتي يجمعها حق الحياة وحق الحرية، تبلغ الذروة التي تتقاصر دونها الصكوك الدولية، فإن حق الحياة لأي فرد بشري يعدل حق الحياة للنوع البشري بأسره، فمن اعتدى عليه كأنما اعتدى على الحياة البشرية بأجمعها {من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}..
وحق الحرية هو مستمد من حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، الذي تترتب عليه المسؤولية في الدنيا والآخرة {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.. حيث إكراه في الدين مصادرة لهذه الحرية والمسؤولية {لا إكراه في الدين}..
أما الشورى في الإسلام فهي عماد المشاركة في السلطة {وأمرهم شورى بينهم} أي أن أمر الناس كله فيما لم ينزل به الوحي هو شورى بينهم كلهم دون تمييز.. ومفهوم الشورى يتصل بجوهر الممارسة، وهي استخلاص الرأي الجامع من خلال الحوار الجامع. هذا بينما الديمقراطية تتعلق بالقواعد والإجراءات والمؤسسات، فهي من الوسائل والأدوات التي تأخذ بها الأمة الإسلامية في ممارسة الشورى، مع توسيع هذه المشاركة الشورية قدر المستطاع، وبالرأي الحي دون الاقتصار على الاقتراع الجامد.. (وقد أفردنا كتاباً للشورى يحمل هذه القيم العليا، كنموذج لتأصيل المشاركة السياسية)..
وفي مشروعات الإصلاح المزعومة يرتبط الخروج من دائرة التخلف الاقتصادي، والثقافي بالخروج من المناهج الدينية والارتباط بالمبادئ العلمانية، حتى ربطوا الديمقراطية بالعلمانية، مع أن المشاركة في السلطة لم تظهر على تمامها في التاريخ إلا في ظل أكبر بعث ديني، هو البعث الإسلامي.. وذلك من خلال نظام الشورى في عصر النبوة والخلافة الراشدة، بدءً من اختيار الحاكم (البيعة الخاصة والبيعة العامة)، والمشاركة بالرأي (المناصحة)، وانتهاءً بالمراقبة والمحاسبة والتقويم وقد استهل الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه عهد خلافته بخطبته الشهيرة التي تمثل مرجعية دستورية وحقوقية عليا، وذلك بقوله:
1- "لقد وليت عليكم ولست بخيركم".. فالحاكم لا يتميز عن سائر المواطنين إلا من حيث جسامة المسؤولية التي يفرضها منصبه (الولاية)، ولكنه متساوٍ معهم في الحقوق العامة.
2- "فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوموني" وهو إرساء لمبدأ المراقبة والمحاسبة لأراء الحكام..
3- "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم" وفي ذلك إقرار للمرجعية الدستورية في الاحتكام بين الرئيس والمرؤوس، وهي طاعة الله تعالى من خلال طاعة أمر ونهيه، كتاباً وسنةً..
وذلك من حيث أن الشورى أمر رباني وعمل إيماني وقد اقتضتها أمانة الاستخلاف الأرض التي هي حق لكل فرد، ولذلك تصير المشاركة في السلطة بالقول أو بالعمل حقاً لكل فرد، ولكل مجموعة.. وهو ما يعير عنه القرآن بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}..
وهكذا فإن التأصيل هو تفتح معرفي وسلوكي على المستقبل، وليس مجرد إنكفاء جامد على الماضي، فالرجوع إلى الأصول، وعلى رأسها القرآن الكريم، هو رجوع إلى قيمة التفكر والتدبر، ومن ذلك منهج البحث العلمي الذي دعا إليه القرآن الكريم، بمثل قوله تعالى {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}.. والسير (البحث) والنظر (العلمي) هما دعوة مباشرة للبحث العلمي المسدد بمقاصد الدين.. وهو بحث حتى في نشأة الخلق، ناهيك عن المعارف والخبرات الضرورية لأداء أمانة الاستخلاف في الأرض..
هذا وعلى الله قصد السبيل؛؛؛
([1] ) مختار الصحاح للإمام عبد القادر الرازي، و المعجم العربي الميسر، لاروس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم..
([2] ) كتاب الشورى- مراجعات في الثقافة والسياسة ، أ.د. أحمد علي الإمام.(1425 ه، 2004م)
([3] ) كتاب التأصيل 1422ه - 2001م.
([4] ) تحت الطبع، ونشر منه شيء بعنوان: الأسرة المسلمة حصن المجتمع الراشد (كتاب التأصيل 1425ه - 2004م)..
([5] ) كتاب التأصيل (المصدر السابق ) .
([6]) كتاب التأصيل (المصدر السابق )..
([7] ) تحت الطبع..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.