كما تشرفت اللغة العربية بنزول القرآن بلسانها فإن الشهور القمرية تشرفت كذلك بكونها الإطار الزمني الذي ارتضاه الشارع لتنفيذ أحكام الإسلام، فلا حج إلا إذا هلّ شهر ذي الحجة، ولا صيام إلا إذا رؤي هلال رمضان، ولا عدة للمرأة المطلقة إلا بحساب الشهور القمرية، وقس على ذلك سائر المعاملات الشرعية التي يرتبط القيام بها بتقويم محدد .ولهذا فإن التنبيه على فضائل بعض الشهور جزئية مهمة ينبغي ألا تنسينا في نفس الوقت الصورة الكلية التي يجب أن تحتفي بشكل أساسي وأوّلي بالشهر القمري وتضعه في موضعه اللائق في حس الإنسان المسلم الذي ينظر لحياته وعمله بمنظار الإسلام وتعاليمه. قد يتساءل البعض: نحن الآن نتفيئ ظلال شهور مباركة، مر رجب وجاء شعبان، وفي انتظارنا رمضان، وأنت تتحدث عن مكانة الشهور القمرية والتقويم الهجري؟! ألا تعتقد أن هذا موضوع في غير سياقه، وأن ما يجب علينا فعله الآن هو كيفية استثمار هذه الأيام في العبادة والأعمال الصالحة؟! نفس هذه التساؤلات يمكن أن تكون منطلقا جيدا للتأكيد على أن الاهتمام بشهر معين لا يمنع من الاهتمام ببقية الشهور، بل يطمئن المرء إلى أن تركيز الحديث على مكانة الشهور القمرية في هذه الأيام المباركة يمكن أن يزيد من ارتباطنا بها وببقية الشهور ويجعلنا أكثر حرصا على العلم والعمل بفضائل الأعمال التي خص بها الشرع هذه الشهور. ومن جانب آخر، يعد الجهل بالتقويم الهجري وشهوره أحد الأسباب التي تجعل الدعاة والعلماء يبذلون جهدا كبيرا في التذكير بمواسم الطاعات التي تحويها السنة القمرية، فلو كان المسلمون على علاقة وطيدة بتقويمهم الهجري لكان التذكير بفضائل الشهور القمرية واجبا هيّنا يتيح لأهل العلم والدعوة استهلاك أكثر أوقاتهم في التفرغ لمهام أكبر وأخطر. التقويم الهجري.. نجاح في رمضان وفشل في غيره! سؤال اختباري قد يوجهه إليك أي أحد في الشارع أو في العمل وقد يصل حد البساطة ولكنه نتيجته المؤسفة تقول إن الناجحين فيه قليل ما هم، السؤال هو: كم اليوم في الشهر العربي؟! قليلون جدا من نجدهم هذه الأيام يعرفون أيام الشهر العربي على وجه الدقة، فأكثر البلاد الإسلامية تتعامل بالتقويم الميلادي ولا تتذكر التقويم الهجري إلا في أوقات معينة، عند حلول رمضان مثلا أو اقتراب موسم الحج، أو عند الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج أو مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعد رمضان الشهر العربي الوحيد الذي يستطيع فيه أكثر الناس الإجابة بكل دقة وسهولة على السؤال: كم اليوم في الشهر؟! ولهذا فإن رمضان يمثل المحور لبقية الشهور، فكما أن الصيام والقيام والطاعات تكون سهلة ميسرة في رمضان بسبب الجو الإيماني الذي يضفيه الشهر يكون تذكر أيامه سهلا على الناس، وهذه ميزة ينبغي أن يستفيد منها المسلمون الذين يودون التعامل بالتقويم الهجري ولكنهم لا يستطيعون بسبب التعود على التقويم الميلادي، فكما تعودت على الصيام في رمضان، تعود على الصيام بعده، وكما ألفت التقويم الهجري في رمضان فلم لا تحاول المحافظة عليه في شوال وذي القعدة وذي الحجة؟! شهور الخير.. استثمار إضافي أتصور أن بإمكاننا أن ننجح في العودة إلى العمل بالتقويم الهجري إذا أوليناه العناية اللازمة باعتباره خصيصة حضارية أكثر منه تأريخا ليوم يمر ويوم يأتي، وربما سننجح في ربط المسلمين بتقويمهم إذا استثمرنا مناسبات هذه الشهور المباركة في التذكير بقيمة التقويم الهجري، تاريخيا باستلهام حدث الهجرة النبوية، ومستقبليا بتأكيد ضرورة التميز الحضاري للمسلمين كمقدمة لنهضة شاملة وواعية. آخر القول؛ في مثل هذه الأيام المباركات، لم لا نحوّل اهتمامنا والتصاقنا برجب وشعبان ورمضان إلى طاقة إيجابية تتسم بالديمومة لا الموسمية، طاقة بإمكانها أن تفيض على باقي الشهور القمرية فيسري في وجدان المسلم اعتداده بتاريخه وهويته واستقلاله.