منذ دخول الاسلام الى السودان لم يكن الجنوب بعيداً عن الحراك الذي احدثه انتشاره في السودان بصورة كانت مواكبة لحركة الرعاة المسلمين الذين توغلوا بعيداً في اعماق الوادي، وأخذوا في نشر دينهم الذي دخل فيه السكان افواجاً، وتصاهروا مع السكان، واعطوا البلاد اجيالاً شكلاً ولوناً مختلفاً عن السحنة الافريقية التي كانت سائدة.. بعض المؤرخين قالوا إن الجنوب كان بعيداً عن التأثر بالثقافة العربية وانه كان منطقة مغلقة في وجه الفاتحين الجدد، وانهم هربوا خوفاً من التأثر بالدين والوافدين الذين كانوا يعملون على اجبار السكان الاصليين في الدخول إلى دينهم، وهذا الحديث يجافي الوقائع التاريخية، والواقع المعاش منذ فترات طويلة بلغت قروناً طويلة، حيث ان الاسلام لم يدخل السودان قصراً أو جبراً وانما دخل طوعاً واختياراً.. والجنوب لم يكن مأوى للهاربين من سكان الشمال الذين كما يقول المستشرقون احتموا بالجبال والغابات لأن القبائل النيلية الموجودة في الجنوب اليوم لم تكن اصولها شمالية، بل على العكس انها استوطنت الجنوب هرباً من التنافس القبلي في جنوب الجنوب ونزحت إلى المناطق التي تعيشها حالياً.. وعلى كلٍ فإن الاسلام في الجنوب اقدم تاريخاً من النصرانية وما ارتفعت نسب المنصرين إلاّ مؤخراً بعد الاحتلال البريطاني للسودان، وخطه لسياسة المناطق المقفولة التي منع بموجبها كل مظاهر الثقافة العربية والاسلامية التي كانت سائدة منذ الحكم التركي في البلاد، وفتح الباب واسعاً للارساليات الاوروبية، والتي تحكمت بكل شيء تقريباً، وهي توغر صدور الجنوبيين وتزعم انهم (تجار رقيق) وهي ترويج لكذبة لم تكن تعبر عن واقع الحال في الجنوب أو الجوار الافريقي كله لأن الاوروبيين انفسهم كانوا أكبر تجار الرقيق في العالم، وإذا كان العرب موردين للرقيق فالاوروبيون كانوا المستوردين له للعمل في مزارع الجنوب الامريكي.. وهذه حقائق تاريخية لا يمكن انكارها بحال. المهم أنَّ المسلمين في الجنوب. وبرغم الهجمة الاستعمارية وضغوط الارساليات التي كانت تكفل الحياة، وتسيطر على مناحيها في ذلك الوقت العصيب بالنسبة للمسلمين وحافظوا على هويتهم ودينهم برغم وعود الترغيب، ونذر الترهيب الذين كانوا يلاقونه.. وتضع الاحصاءات التاريخية المسلمين على قدم المساواة من ناحية النسبة المئوية مع النصاري.. وتبقى الاغلبية على معتقداتها الوثنية والافريقية. المسلمون في الجنوب كان ينظر لهم على أنهم امتداد طبيعي لحركة الاسلام ودعاته في عمق القادة الافريقية، وان كانت الدول المجاورة للجنوب بها نسب عالية من المسلمين كيوغندا وكينيا إلاّ ان الجنوب كان يتمتع بميزة كونه جسراً للتواصل العربي الافريقي ومنطقة تلاقي وحوار بين الشرق والجنوب الأفريقي. والمسلمون في الجنوب لم يجدوا أي اهتمام من اخوانهم في الشمال برغم الصلات الاجتماعية الوطيدة بين التجار الشماليين العاملين في الجنوب، وعبر فرق الجيش التي كانت تحارب المتمردين، وغير ذلك من الصلات التي خلقتها حركة الرعاة الشماليين من قبائل المسيرية والبقارة وقبائل التماس.. والتي يُطلق عليها اليوم بمناطق التمازج أو ولايات التمازج.. وعبر تاريخ الاسلام في الجنوب كان يُنظر لهم على أنهم اتباع للشماليين، وأنهم خونة لذا كانت كثير من حركات التمرد تستهدفهم، وتخرب مساجدهم، وتدنس مصاحفهم، ولم يلق المسلمون من الانصاف ما يجعلهم يحافظون على هويتهم الدينية، وأصولهم، وجذورهم القبلية.. ولو ان المسلمين من أبناء الحنوب قد مُكن لهم من الإدارة والثروة لكان شأنه في هذا الاقليم عظيماً، ولارتاحت الحكومات الشمالية من قضية المظالم والثأرات التاريخية والتي انتجت تمردات ساحقة، وتقدم على اساس اثني وقبلي وجهوي جعل من المنطقة مسرحاً للحرب طاولت (37) عاماً دون هدنة حقيقية إلاّ بعد اتفاق إديس ابابا في العام 1972م، ولو ان الاتفاقية تلك راعت أحوال المسلمين الجنوبيين لاستدام السلام، ولما كان الناس في حاجة لاتفاقات جديدة مثل نيفاشا، ولكن المشكلة كانت على الدوام هو خضوع الحكومات المركزية للضغوط الغربية التي كانت تسوق الحرب على أنها حرب دينية لا حرب مظالم لم يكن فيها للدين أي نصيب. وهنا لا يخفى ان حكومة الانقاذ أعطت هذه الحرب المبرر الديني باعلانها للجهاد، وتكتيبها للكتائب التي رفعت راية جهادية عززت الاعتقادات الخاطئة بأنها حربٌ دينية بين الشمال الغربي المسلم، وبين الجنوب الافريقي النصراني ونصارى الجنوب لا ناقة لهم ولا جمل في هذه القضية بتمامها.. إلاَّ أنَّ نخبهم كانت قد تولت كبرَّ الحرب وحاولت تسويقها على أساس العرق والدين والجهة. الأمر الذي ادى لتدخلات عديدة دولية وإقليمية.. حيث دعمت كل من كينيا ويوغندا الحركة الشعبية التي رفعت شعار تحرير السودان من العرب والمسلمين.. وكسبت دعم الكنيسة العالمية، وهي تكاد تكون الحركة المتمردة الوحيدة التي وجدت دعم الشرق والغرب معاً. صحيح ان الحركة الشعبية دفعت شعار القومية، وضمت بعض متعلمي ويساريى الشمال إلاَّ أنها لم تتخلص من عقدة العرق، والقبلية والتي ركزت قيادتها في يد قبيلة الدينكا.. إلاَّ أن الحركة لم تنس ان تنشئ للمسلمين داخلها مجلساً يدير شؤونهم، ويرعى مصالحهم، وهو في ظاهره كذلك، ولكنه ليس إلاّ من شعارات الحركة، ولا يمثل قناعاتها، وإلاَّ فهي حركة عنصرية مغرقة في العنصرية، وتزايد على كونها كذلك. والذي أعلمه ان المجلس الخاص بالمسلمين كان نتاج انضمام اعداد مقدرة من النوبة للحركة الشعبية، والقتال إلى جانبها، فكان المجلس واحداً من مكآفاتها لهم.. والذي نعرفه أيضاً ان الحركة وبرنامجها العلماني لم يحظ بتأييد مسلمي الجنوب، بل على العكس تماماً فقد كان المسلمون واحداً من ضحاياها الكثيرين. واليوم وبعد اتفاقات نيفاشا، والتي أهملت المسلمين في الجنوب تماماً نجد ان البعض منهم لم يجد إلاَّ الانضمام لحركة لا يملك قناعة ببرامجها وإنما انضم لها مقابل أمن شرها والدفاع عن مصالح المسلمين في الجنوب في ظل انفرادها بحكمه.. بعد ان أخلت نيفاشا الجنوب تماماً لهذه الحركة العنصرية اللا دينية، ولم تحفظ الحكومة والمؤتمر الوطني لمسلمي الجنوب حقوقهم في الوقت الذي افرزت فيه الاتفاقية لغير المسلمين في العاصمة مفوضية تحفظ لهم حقوقهم في ظل حكم الشريعة الاسلامية بالشمال.. وان قيل ان النظام العلماني الذي يسود الجنوب يساوى بين الجميع فنقول ان غير المسلمين في الشمال لم يكونوا في حاجة لمفوضية تحفظ لهم حقوقهم لأن حكم الشريعة كفيل بذلك. والآن وقد قررت الحركة الشعبية أخذ الجنوب نحو الانفصال، فهنالك سؤال مصيري يطرح نفسه بقوة بعد انفصال الجنوب.. ما هو وضع مسلمي الجنوب في ظل الدولة الوليدة؟ غالب الظن ان المسلمين في الدولة المنتظرة سيكون وضعهم كارثي وسيتعرضون لمظالم جديدة لاعتبارات الدين والاخوة التي سيحتفظون بها مع اخوتهم في الشمال، وظني ان محادثات المؤتمر الوطني مع الحركة الشعبية لم يتطرق لوضع المسلمين هناك في حال الانفصال، ونسبة لحساسية المحادثات فان حقوق المسلمين في الجنوب من الأمور المسكوت عنها، ولن يجد المؤتمر الوطني الشجاعة الكافية لإثارة قضيتهم. والا ظهر ان وضع المسلمين سيتوقف على أحد أمرين: اذا تم انفصال آمن وادى الى جوار سلمي فان وضعهم لن يكون في خانة عداء مع الحكومة الجنوبية.. أما اذا كان الوضع غير ذلك أيَّ خلق الانفصال دولة عدائية للشمال فإن وضع المسلمين سيكون من السوء بمكان، حيث سيتهمون بموالاة الشمال وربما زُج بهم لمحاربتهم. أما إذا اخلت المسائل العالقة، وأُعطيت الحركة الشعبية تنازلات في أبيي والجنسية المزدوجة والحدود المرنة فان وضع المسلمين سيكون في احسن الأحوال في وضع الاقلية المهمشة، ولعنا شهدنا من الدلائل على ذلك ما نقله المسلمون هناك من اغلاق لمساجدهم ومراكزهم الدينية ومصادرة لمدارس منظمة الدعوة الاسلامية، وفرع جامعة القرآن الكريم، وغير ذلك من المضايقات. أما عن خياراتهم إزاء ذلك فإنها إما النزوح نحو الشمال أو تكوين حركة سياسية مطلبية لتحقيق مصالحهم أو اللجوء لحرب حكومة الجنوب، واللجوء للسلاح لانتزاع حقوقهم وتحقيق مصالحهم في التمثيل العادل في السلطة، وكسب الثروة وتحصيل حقوقهم. وهي خيارات صعبة وتحتاج الى من يسند موقفهم، ويدعم قضيتهم، وما لم تخيب السلطة الجديدة الظن في انها ستعمل على تحقيق العدالة للجميع في مجتمع تزعم الحركة الشعبية أنها تعمل على تحقيق العدالة والمساواة والديمقراطية والحرية في التعبير والحركة والتنظيم.