ما الذي يجعل السودان دولة فقيرة؟ وعمر شعبه يضرب في عمق التاريخ البعيد، وقد تشكلت شعوب مثل كندا وأستراليا و نيوزلندا بعده بمئات السنين لكنها أخذت من سبل التقدم المادي بنصيب، فازدهرت ونمت وتقدمت. ما الذي يجعل السودان دولة فقيرة؟ وهو يزخر بموارد مائية، وثروات حيوانية، وكنوز معدنية، وسهول زراعية، خلافاً لدولة مثل اليابان التي تشكل الجبال 80 % من مساحتها، الأمر الذي يجعلها شحيحة الموارد، فقيرة الثروات، لكن اقتصادها مع ذلك هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إذ تعد اليابان مصنعاً كبيراً يستورد المواد الخام، فيصنعها ويصدرها سلعاً عالية الجودة. وكاليابان نجد هولندا التي عوضت صغر مساحتها بزراعة أرضها لأربعة فصول في العام، فأصبحت من مصدري المنتجات الزراعية ومستخرجات الألبان. ما الذي يجعل السودان دولة فقيرة؟ وكفاءة أبنائه معروفة، تشهد لها جامعات أوربا، ومستشفيات المملكة المتحدة، وسوق العمل الأمريكي، ولا نبالغ إن قلنا إن معالم النهضة الخيلجية الحديثة قامت في جزء كبير منها على أيدٍ تنفيذية سودانية، نجحت في إدارة البلديات، والجامعات، والمستشفيات، والمؤسسات المالية، ونحوها. بل حتى العمال البسطاء الذين كانوا خاملين في السودان رأيناهم طاقة منتجة فاعلة خارجه. أين الخلل إذن؟ في ظني أن الثروة الحقيقية التي تجعل النجاح المادي أمراً ممكنا، هي ثروة معنوية، لا صلة لها بعمر الشعوب، أو مقدار الثروات، أو وفرة القيادات، أو غيره، بل هي وثيقة الصلة بالسلوك، وبما نؤمن به، ونتربى عليه من: شعور بالمسؤولية، وتكامل في الشخصية، وارتباط بالمبادئ، واحترام للقانون، وشفافية في تطبيقه، وإحسان للتخطيط، والتزام بالنظم واللوائح، ومراعاة للمواعيد، وحب للعمل، وحرص على تجويده، ثم هي ثروة جمعية تتعلق بسلوك المجتمع، لا بصفات بعض أفراده، لأن الأشخاص الناجحين موجودون في كل المجتمعات. انظر كيف غرس الإسلام هذه المعاني السلوكية في نفوس العرب المتناحرين فحولهم في سنوات معدودة من رعاة الشاة والإبل، إلى أصحاب فكرة، ورواد دعوة، وصناع حضارة. إن البيئة المعنوية هي التي تصنع النجاح، غير أن تحويلها من بيئة داخلية في نفوس أشخاص معدودين، إلى سلوك خارجي عام يلتزمه قطاع عريض من المواطنين، يشكل تحدياً كبيراً، يستلزم أن نفعل الطاقة الإيمانية، ونجدد القدوة الربانية ونأخذ بالسنن الاجتماعية.. في التغيير، حتى نتجاوز كلمات: الموظف المختص غير موجود، والجهاز (الفلاني) لا يعمل، وتعال غداً. فهل لنا أن نطمع في أن نعيش هذه البيئة المعنوية ونلتزم ذلك السلوك الريادي حتى نفعّل ثروات الأرض وطاقات الذهن وإرث الحضارات؟