بقلم أ. عبدالمجيد عبدالرحيم الحاج مركز البحوث - جامعة إفريقيا سيكون مقالنا هذا الثاني إن شاء الله عن الشيخ القرشي وهو أحد ثلاثة من الدعاة السودانيين الذين ماطلبوا الاضواء بل تزاوروا عنها وتأوا بانفسهم عنها ، عاشوا حياتهم فقراء زهادا عن قناعة وترفع ، متواضعين متقشفين في مستوي بسطاء الناس المساكين ، ولكن السمو يأتي في تعاملهم المتعالي علي اصحاب السلطة. لصورة لجبال النوبة مركز نشاط الشيخ القرشي القرشي لقد ركز الشيخ القرشي في دعوته علي ابراز حقائق الدين بالحكمة والموعظة الحسنة وابراز روحانية العقيدة الدينية وخلود ان الاسلام جفف منابع الرق بالاعتناق بشتي الصور. كما عمل الشيخ القرشي علي محاربة البدع والخرافات والعادات والتقاليد التي تتنافتتى مع روح الإسلام وجوهر العقيدة الغسلامية فحارب اعمال الكجور واستمال من يمارسونها اليه لعلمه بتأثيرهم العميق علي مجتمعاتهم مجتمعات النوبة ، فادخل بعضهم الإسلام ، بل استفاد ببعضهم لنشر دعوة الإسلام . اسلوب التدرج في نشر الدعوة لقد جاء الشيخ محمد الامين القرشي الي جبال النوبة ووجد أن هناك عادات وتقاليد متأصلة ، وأن التعرض لها إن لم تصحبه الحكمة ، فإن اثارتها في بداية الدعوة قد تؤدي الي نتائج عكسية ، علي الرغم من ايمانه بأنها ليست في الدين من شئ، بل تتنافي مع روح الشرع ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) آل عمران (159) ويعلم شيخا رحمه الله أن الإسلام حينما جاء الي العرب وجد أن الخمر تشكل شيئا هاما في حياتهم كما وجد الرق عنصرا اقتصاديا لهذا تدرج القرآن في تحريم الخمر وفي تحرير الرق . لقد وجد ان استخدام اهالي جبال النوبا للمريسة يختلف عن استخدامها في معظم انحاء السودان ، ففي بقية انحاء السودان تستخدم كشراب غالبا بعد أن يتناول الشخص وجبته اي تستخدم للسكر وليس للغذاء ولكن في الجبال تستخدم للغذاء ، لأن النوبة يتعاملون معها علي انها القوت الرئيسي والوجبة المفضلة وخاصة عندما يكون هناك عملا جماعيأ ( نفير) للعمل الزراعي او لبناء المنازل ، فالشيخ لم يشدد في تحريمها في البداية ولكن لم يجعلها مباحة. لقد بدأ اتصاله بكبارهم مثل الملك كنده كربوس رحمه الله ملك قبيلة النيمانج وبقية المكوك موضحا لهم اضرار المريسة وانها تذهب العقل ولاتصلح العبادات معها وبدأ في اقناع القادة المحليين وهم بدورهم استطاعوا ان يؤثروا تأثيرا واضحا علي مواطنيهم وتخلوا عن شربها واتضح ذلك في مناطق ( كتي ، النتل ، سلارا ). فالشيخ القرشي يشكل مدرسة دعوية قائمة بذاتها ، وأنه داعية منفرد وعالم سبق زمانه لأنه تنبأ بمشكلة الجنوب والجبال قبل حدوثها ووضع لها الحلول . وهذا يؤكده موقفه الصارم ضد قانون المناطق المقفولة عام 1922 لما يحمله ذلك القانون من نوايا سيئة من المستعمر. عادة العري كان سكان جبال النوبة لا يلبسون الثوب إلا إذا كان هناك عيبا خلقيا وكانوا يحضرون الي ( النقارة ) أو ( الصراع) عرايا فسعي بشتي الطرق لعلاجها فكان يحضر الدفورية والملابس الجديدة والمستعملة ويوزعها على الناس وكان احيانا يضطر لقسمة عمامته ليستر بها بعض العراة . لقد لبي المكتب فاروق ملك مصر طالب الشيخ إذ ارسل اليه كميات كبيرة من الاقمسة كان لها الاثر الكبير في اسلام الكثيرين من مواطني جبال النوبة. ومنطقة جبال النوبة تشمل ولاية جنوب كردفان بين خطي طول 31- 39 وخطي العرض 10- 12-30 شمالا وحدودها شمالا بولاية شمال كردفان وعاصمتها البايض وغرب ولاية غرب كردفان وجنوب ولاية الوحدة ومن الشرق الحدود الغربية لولايتي اعالي النيل والنيل الابيض وتقدر مساحتها بثلاثين ميلا مربعا تغلب عليها الجبال المتفرقة وتخللها اينابيع السهول وبها اشجار السنط والعرديب والتبلدي وتصلح بها زراعة القطن عدد الجبال تسعة وتسعون جبلا . اطول سلاسلها سلسلة جبال تقلي التي تقع شرقا من أهم مدن جبال النوبة ، الدلنج ، كادقلي ، رشاد ، تلودي ، ابوجبيهة ، العباسية ، لقاوة . قبائل جنوب النوبة : يتجاوز قبائل النوبة الأربعة وستون قبيلة وهي قبائل متداخلة تداخلا جغرافيا واجتاعيا وهذا التداخل يشمل النوبة وعرب البقارة مثل المسيرية والحوازمة وبعض القبائل الاخري مثل الداجو ، والبرنو ، ان جبال النوبة شكلت نموذجا رائعا للتمازج الثقافي والوحدة الوطنية . لقد ذكر علماء التربية والاجتماع ان الشعوب التي تتكلم لغة واحدة ، لابد أن يكون لها اساس تفكير واحد وإن اختلفت في اللهجات المحلية ، والمقصود هنا لغة الاتصال لا لغة التعليم في المدارس ، وها يكمن أهمية اللغة العربية وضرورة نشرها لدعم الدعوة الإسلامية حيث كان الشيخ القرشي يجيد العربية وعمل علي نشرها . مجموعة الكواليب ، تقلي ، كتلا ، الاجناج ، تلودي والمساكين ، بوفا ، تيمين ، النيمانج ، الداجو . ويقسم ( نادل ) قبائل النوبة الي 14 جماعة عرقية ، جماعة اوتورو ، التيرا ، المورو ، كرنقو ، المساكين ، التلشي ، الكواليب ، الدلنج ، النيمانج ، الكدرو ، الافتي ، الديني ، الداجو ، تقلي ، لقد ظهر بعض الزهاد من رجال الدين المسلمين الذين عملوا علي نشر العقيدة الإسلامية في جبال النوبة منهم ، الشيخ بدوي ود ابوصفية ، والشيخ محمد الجعلي الذي جعل من منطقة تقلي مقرا له وخلفه ابنه ابوجريدة ، فتكونت أول مملكة إسلامية اخذت تنشر الإسلام وهي مملكة تقلي وتعتبر أول كيان سياسي في جبال النوبة ولم تسلم منطقة الجبال من تأثير الفونج والفور . لقد كان الامام محمد احمد المهدي يعلق آمالا عريضة علي جبال النوبة بتكوين جيش قوي لنصرة المهدية ، فاستخدم استراتيجية هادئة مع النوبة ومنع الانصار من التعدي علي السكان وأمرهم باقامة العدل فيهم لقد اخطأ بعض أمراء المهدية الذين ظنوا أن الإسلام ينتشربالسيف مما جعل النوبة يهربون الي قمم الجبال مما أخر انتشار الدعوة كما شعر الانجليز أن وجود اللغة العربية بجبال النوبة يساعد علي انتشار الإسلام ففكروا في ادخال الحروف اللاتينية بدلا عن العربية التي تتطلب استاذا عربيا مسلما ، وعليه قرروا تدريس اللغة العربية باحرف لاتينية وباقي المواد باللغة المحلية . لقد باءت جهود الكنيسة في الحد من انتشار اللغة العربية في جبال النوبة بالفشل ، وبالتالي فإن رسالة الكنيسة لم تكن فعالة ، لهذا لجأت لاثارة النعرات القبلية والعنصرية واظهار الشمالي المسلم بأنه حظر علي النوبي وأنه جلابي تاجر رقيق مستغل لخيرات النوبة ، ولكن الهجرات العربية المتصلة لجبال النوبة اثبتت فشل هذه الغربة . جهود القرشي واستمر نشر الدعوة الإسلامية بالجبال بعد صراع لفترة طويلة بين الشيخ القرشي والسكرتير الاداري الانجليزي روبرتسون . وتحت ضغد من اعضاء الجمعية التشريعية وافقت السلطات الانجليزية للشيخ محمد الامين القرشي بالدعوة في جبال النوبة مع انها تدرك أن له مواقف صلبة ضدها حينما عمل قاضيا ومن اشهرها قضية كنيسة عطبرة وبيع غير المسلمين للمصاحف بكادوقلي . لقد وجد الشيخ القرشي في مدينة الابيض سندا عظيما لدعوته لوجود صلات وعلاقات بها مما مكنه من الاستفادة من ذلك لأنه عمل فيها قاضيا واستاذا فكانت له نقطة انطلاق مهدت له دخول جبال النوبة . بناء المسجد : اول خطوة خطاها الشيخ القرشي هو بناء المسجد لوضع اساس لدعوته في جبال النوبة اقامة المسجد اسوة بالرسول صلي الله عليه وسلم . لقد اسس الشيخ القرشي خلوة كبيرة في الدلنج لتعليم القرآن الكريم وبدأ ينطلق منها لبقية الجبال يحمل راياته وبوارقه مكتوبة عليها ( لا إله ألا الله محمد رسول الله) ومعه اعوانه وعلي راسهم المك كنده كربوس الذي عمل سابقا بقوات دفاع السودان بشندي والقضارف وهو من أهالي النوبة وقد اسلم وعمل مترجما مع الشيخ القرشي رحمهما الله . وفي الدلنج طلب من المفتش الانجليزي ان يعطيه ارضا ليقم عليها خلاوي وبيوت وداخلية ولقد صدق له المفتش بمساحة مكنته من تأسيس هذه المنشآت حتي اصبح عدد طلابه أكثر من ثمانين ، وحينما شعر الانجليز أن هذا الرجل يشكل خطرا عليهم وعلي الكنيسة سعوا الي نزع الارض منه واستبدالها بارض اخري لابعاده عن هذه المنطقة ولكن الشيخ رفض التحرك مهما كانت الظروف وقد سجل هذا الموقف في قصيدة . عندما كان الاستاذ عبدالرحمن علي طه وزيرا للمعارف في ديسمبر 1948 اهتم بالتعليم في الجنوب وجبال النوبة حيث اجري تعديلات جذرية علي التعليم وخاصة الديني لأنه وجد أن سياسة الانجليزي ترمي الي اغلاق جنوب السودان وجبال النوبة أمام تيارات المؤثرات العربية وهي اللغة والدين والزي . لقد اتخذت وزارة المعارف في الاعلوم 1948 - 1950 قرارات واضحة ابرزت فيها سياستها التعليمية نحو الجنوب وجبال النوبة. لمؤثرات التي اثرت في شخصية الشيخ القرشي 1- البيئة الصوفية التي نشأ فيها 2- الثورة المهدية وماتركته من أثر عليه 3- الإرث الاسري 4- تاريخ قبيلة الحلاوين النضالي 5- المهنة ونوع الثقافة . للشيخ القرشي انتاجا ادبيا غزيرا وله مؤلفات في مختلف العلوم بعضها مطبوع . والآخر لم يطبع حتي الآن . له قصيدة يطلب من الاخوة المصريين ان يساهموا في الدعوة الإسلامية بالخرطوم وصورها في هذه الأبيات : ذهبت الي الجنوب وفيه أدعو الي الإسلام طاب بنا المقام فأسلم منهم خلق كثير وصلوا في جبالهم وصاموا عراة ليس عندهم كساء جياع ليس عندهم طعام هناك كنائس للكفر قامت يناطحها من الطول الغمام ومسجدنا عرائي ليس فيها سوي القرآن وهو لنا إمام وجئت الي الكتانة ارتجيها عنياتها باعمال تقام ومشروع عظيم مثل هذا بغير المال ليس له قوام وها أنا بين اخوان كرام سلام يابني مصر سلام دروس من الشيخ القرشي لازالت الدعوة الإسلامية تتسم بالتخلف وعدم وضع السياسات والاستراتيجيات والخطط الواضحة ، التي تلائم الظروف الاجتماعية السائدة في المجتمع . والتجربة التي خاضها الشيخ القرشي تجربة رائدة ينبغي ان يقف عندها كل الدعاة وتستفيد منها كل الحكومات لأنها دعوة اتت ثمارها وادخلت الآلاف من سكان الجبال الإسلام علي الرغم من ضيق الامكانات وضيق ذات اليد فهو مدروسة دعوية قائمة بذاتها تجعله قدرة للدعاة . من المراجع التي اعتمد عليها د. احمد محمد البدوي 1- Ignatius Palme K Trowels in veorndofan Madden London 1844 PP 189- 190 2- J.S Triminghan , Islam in Sudan OU , London , 1949 P. 103 3- Dr. Peney , L'Ethnograpline Du Soudan Egyplien .Reved d'Ethnographic Paris 1882 P. 490 4- الخلوة : ص 245 5- George English , Anarative of an Expedition to Dongola and Sannar , John Muuray , London , 1822 ,PP 190 0 191