شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    مقتل البلوغر العراقية الشهيرة أم فهد    محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    كهرباء السودان: اكتمال الأعمال الخاصة باستيعاب الطاقة الكهربائية من محطة الطاقة الشمسية بمصنع الشمال للأسمنت    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراجعة مراجعات المحبوب عبد السلام: مفهوم التدويل في فهم الحركة الإسلامية(2-5).
نشر في السودان اليوم يوم 17 - 06 - 2013

نواصل في هذه الحلقة مناقشة الأستاذ المحبوب عبد السلام في مراجعته لحالة الحركة الإسلامية وإفرازاتها على المناخ السياسي العام. وفات علينا أن ننوه في الحلقة الماضية إلى أن حوارا ثريا جمعنا مع المحبوب عبر المنتدى العامر الذي أقامته الجالية السودانية في واشنطن الأسبوع الماضي. ولعل ذلك النوع من الحوار من ما دأب المحبوب على إجرائه بعد صدور كتابه (الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء..خطوط الظلام)، وذلك لتبيان موقع الأثر في ذاكرة الذين قرأوه، أو استمعوا إلى أفكار المؤلف، عقب ما سميت بالمفاصلة التي شطرت الحركة إلى نصفين. ونذكر أن مسلسل الانشطارات تواصل عبر جماعات وأفراد من تنظيم المؤتمر الوطني الذي ورث قدرات "الجبهة الإسلامية القومية"، إلى أن وصلنا إلى جماعة "السائحون". وصبر المحبوب على الاستماع إلى الرؤى المخالفة لمراجعاته بحدتها وتناولها خارج سياقاتها، وتأويلها يحفز للمضي قدما في نقد أفكاره، والتي تأتلف وتختلف في بعضها مع منظومة أفكار الخارجين عن تنظيم المؤتمر الوطني الحاكم. ولقد عدت إلى قراءة كتاب المحبوب، ورأيت أن خمس مقالات لا تفي بالإحاطة بكل ما تطرق إليه المحبوب في سفره المثير لشهية الحوار. ولكن حسبنا أن نعود في المستقبل إلى تطوير هذه القراءة التي نبذلها هنا لتصدر في كتاب عساه يتيح لنا مجالا رحبا للاستطراد الذي تحرمنا منه المقالة ذات الطابع الصحافي.
يقول الأستاذ المحبوب عبد السلام في آخر فقرة ختم بها كتابه: "إنَّ محنة الحركة الإسلامية السودانية بعض من محنة البلاد كافة. فمهما تناصرت الطاقات تحافظ على تماسك الجماعة وتجدد الطاقة في احتياطها الهائل، وتجتهد لتحيي فيها الأمل بعد التطهر من الحكم الناكث عن كل عهد، ثم تبسِط الدعوة لسائر قوى المجتمع وفئاته المدنية والسياسية لتتكامل وتنهض وتتحرر وتبُلغ بالشعب تمام حقه وواجبه في الحرية والكرامة، فإنها تحتاج كذلك لتجديد سياستها العالمية وعلاقاتها الدولية الشعبية والرسمية، إذ تطاوَلت الأزمة وَفحشت وانَفتحت الُثغور في جدار البلاد لتدخل غازية التدويل.."
القول الصحيح هو إن محنة السودان هي بعض من محنة الحركة الإسلامية في التعامل مع السودانيين، إذ أفضى ذلك إلى تعميق قضايا السودان ودفعها نحو "الانفصال" والانفجار. ونعلم أن هناك محنا أخرى للبلاد تتعلق بهشاشة تكوينها الاجتماعي، وخلوها من رجال الدولة، ووقوعها ضمن الإقليم العربي الإسلامي، والذي هو نفسه يعيش أزماته التي لا يلوح الآن بصيص أمل لحلها. بيد أن كل هذه المحن السودانية تتضاءل أمام محنة الحركة الإسلامية الكبيرة، التي فرطت في الجنوب وفرطت أيضا في وحدة وتماسك نفسها، وأدخلت البلاد إلى هذا المستنقع السياسي الآسن. فإن كانت محنة السودان، إجمالا، نتاج أزمة فكرية تركيبية تتعلق بصلة أقطار العالم الإسلامي بالسوق العالمية، فإنها أيضا تتعلق بتجذر التصورات الأصولية والسلفية الضيقة المنظور، والعشائرية، والمذهبية، والمناطقية، والذكورية، ولعل كل هذه التصورات تأخذ الطابع الاستعلائي العصابي. وتتعلق الأزمة كذلك بالاختراق الحادث للنخبة من خلال تأثرهم بأيديولوجيات إسلاموية لا تراعي خصوصية الدولة القطرية، ومصالح مواطنيها، وقدرتهم على توفيق أوضاعهم بناء على رؤاهم هم، لا رؤى خارجية تفرض عليهم بالإرهاب، والقمع، والإبادة الجماعية. ولا نعتقد أن تعليق (محنة الحركة الإسلامية) على شماعة محن السودان من ما يفيد في حل مشاكل الحركة والبلاد التي فيها عاثت في مختلف جوانبها فسادا لم يسبق له مثيل، كما قال الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد الرئيس الأسبق لحركة الأخوان المسلمين. وضمن ما قال صادق الذي شيخه مريدوه: "أنا الحكومات دي عايشتها منذ ما قبل الاستقلال، دائماً السنوات الأولى بيكون فيها خير بعدها يتجلّى الانحراف كما حصل الآن، عايشت الحكومات دي كلّها وما رأيت حكومة غرقت في الفساد وعدم مواجهة الحقيقة والعدل لكل من يعتدي على المال العام والحق العام مثل ما يحدث الآن"
ويختتم الأستاذ المحبوب الفقرة السابقة لوصل ما جاء في المقدمة التي أوردناها في البدء بقوله: "... فواجب الحركة الإسلامية أن تجتهد مع كل أوَلئك لتحفظ عزة البلاد وتحفظ استقلالها من الارتهان، وتطهر سياساتها من التدخل، لكن بما يوافي أفق الإنسانية الرحيب في التعاون على الِبر سياسًة واقتصادًا وعدالًة وثقافًة وصحًة وإغاثة، نحو الجوار القريب ونحو العالمية اُلمتقاربة اليوم في عالم وثيق كثيف، في السعي الدؤوب لدعاة الإسلام المتجدد في الطريق الطويل، طريق الحضارة الإسلامية، كما يقول مالك بن نبي..."
وهكذا ما يزال المحبوب يراهن على مشقة الحلم بالسير في طريق قد لا يفضي إلى تحقيق الحضارة الإسلامية في ضربها المحدث. وهذه غاية تسعى إليها الآن الحركات الإسلامية في العالم بعد رهن الداخل القطري كله لذلك الحلم المرهق. ولكن المحبوب لا يتعظ بحقيقة تخثر الأحلام الكبيرة التي انبجست من بطن حوت تفكير الفضاء العربي الإسلامي المركزي، إذ شاهدنا الأزمة التي وقع فيها القوميون العرب الذين قادوا كل البلدان العربية للتوحد دون أن يفطنوا إلى غياب أسس الوحدة نتيجة للتمايزات الحادة في تركيبة الأقطار نفسها، وأيضا في التعدد الكثيف لنوع قومياتها، وألسنتها، وثقافاتها إلخ. فحلم تطبيق التوحد السياسي لا يبدأ رأسيا بواسطة حركات إسلاموية تحمل عنصر فنائها، أو عبر جامعة عربية ليست هي سوى ناد لرؤساء، لا هم لهم سوى الدفاع عن حقوق الأنظمة المستبدة، لا الشعوب الراغبة في الخروج على كامل عضوية المنظمة.
ولقد شاهدنا تخاذل المنظمة العربية عن نصرة الشعوب المستضعفة التي تعرضت للقمع، أو الظلم التنموي من جانب أنظمة مصر، سوريا، والسودان، والعراق، وليبيا، والجزائر، مثالا. ولعل هذا القمع شمل الحركات الإسلامية نفسها. وآنذاك لم يكن التعلق بالمفهوم الحضاري الأوسع للعرب والمسلمين منجاة للحركة نفسها من القمع الذي دام لنصف قرن واجهته في مصر وسوريا ودول أخرى. بل إن النظام الذي خلقته الحركة الإسلامية قمعت صانعه والمحبوب نفسه. إذن فما الذي لا يحمل المحبوب للنظر إلى أمر التوحد الحضاري من جانبه القاعدي لا الفوقي. ولدينا مثال النمور الآسيوية. وهناك الإتحاد الأوروبي الذي قدم للعالم نموذجا في التوحد، جذوره نشأت من خلال رغبة الشعوب لا الحكومات. إتحاد يقوم على الإبداع لا الإتباع، وعلى حوار لسان بلسان لا على حوار طائرة ضد طائرة مثلما أفصح محمود درويش.
إن معطيات السير في طريق الحضارة الإسلامية غير متوفر، هذا إذا اتفقنا مع القول إن بعث هذه الحضارة بشكل جديد ممكن بأفضل من "السعي الدؤوب..في طريق الحضارة الإسلامية". وإن كان بعث أسس هذه الحضارة من الأمور الموكولة إلى منظمة تمثل رأي المسلمين جميعهم، وليس شريحة منهم، فإن منظمة العالم الإسلامي المؤمل فيها أداء هذا الدور لا تختلف عن الجامعة العربية من جانب قدراتها اللوجستية والمجتمعية. فهذه المنظمة لا تهدف حقا إلى شئ مثل تهديفها الملح إلى دعم الرؤساء، والملوك، والشيوخ، وسائر الألقاب. ولا أظن أن بعث السيرة الطيبة، إن أمكن، لبعض الجوانب المشرقة في الحضارة الإسلامية يتم بمنأى عن تفهم دور الشعوب الإسلامية بمنظماتها الإقليمية لهذه الأولوية. ولما كانت أولوية هذه الشعوب الآن هي المحافظة على كياناتها القطرية في ظل استشراء فيروس الإسلام السياسي الذي ينهش في بنية تماسكها الداخلي ويسعى إلى تقسيمها إلى فسطاطين، واحد مسلم، والآخر إسلامي. فلا نعتقد أن الطريق إلى بعث الحضارة الإسلامية أمر سهل التنظير فيه هكذا. وليت المحبوب يعود في المستقبل ليفيدنا بمراجعاته لأصول نظرية الإسلام السياسي والتي بواسطتها يتحقق حلم الحضارة الإسلامية. فالمقدمات الفكرية والسياسية التي أنجبت الإنقاذ تتوجب على المحبوب إعادة النظر فيها بدلا عن القفز هكذا إلى مراجعة التطبيقات وحدها.
ومن ناحية ثانية يحدثنا المحبوب عن تجديد الحركة الإسلامية لسياساتها العالمية وعلاقاتها الدولية. وتلك الأمنية ليست أولوية فحاجة الحركة الحقيقة، حتى تنهض مبرأة من كل ذنب ارتكبته نحو مجتمعها السوداني، إلى إجراء تسوية لسياساتها مع المكون المحلي الذي تأذى منها. أللهم إلا إذا كان المحبوب ما يزال يؤمن بأن التحشيد الدولي الأيديلوجي للحركة هو السبيل الأوحد لتطوير البلاد، أو يقوم مقام الحماية المضمونة أمام الهزيمة القاضية التي منيت بها الحركة خلال انهيار مشروع قادتها ومنسوبيها الحضاري.
وهذه التسوية القاعدية مع المجتمع، إن حدثت، تعضد قوة الحركة، في حال إصرارها على تجديد عالمية فكرتها، عبر اعترافات صارمة لعضويتها في فشل فكرة أسلمة الدولة والفرد معا بالقوة. فلا الدولة صلحت وحافظت على توحدها. وبالطبع لم ينصلح صانع مجدها الإسلامي بما يجعله مثالا للتدين يحتذى. أما إذا كان المحبوب يرى أن عالمية الحركة الإسلامية كما عبرت في أدبياتها ما تزال أملا دونه خرط القتاد فذاك شأنه وأمامه غول المعوقات الجاثم على الأرض. وبالطبع لا يمارس المرء الوصاية على الحركة الإسلامية وأحزابنا، عوضا عن نقدها، لتحديد خياراتها بأن تقوي صلاتها الدولية في إطار المكون الإسلامي أو الإنساني. ولكن يظل السؤال عن أولوية علاقة الحركات الإسلامية خصوصا في المنطقة بأوطانها. والمدعاة لذلك هو أن الحركة الإسلامية حين استقر لها أمر الحكم مهدت المجال لعلاقات قوية مع الحركات الإسلامية في المنطقة عبر المؤتمر الإسلامي الذي ترأسه الأستاذ إبراهيم السنوسي. في حين أنها غضت الطرف عن الحوار مع الحركات السياسية السودانية لإقناعها بجدوى سياساتها الاستبدادية لإنجاز الأسلمة. فبينما كان عمر عبد الرحمن، وبن لادن، وآخرون يتجولون في بلاد العالم الإسلامي كان المواطنون السودانيون محرومين من تجديد جوازاتهم في الخارج، بل وملاحقين في المناطق التي هربوا منها.
وغريب أن يتحدث المحبوب عن التدويل الذي أدخلته الحركة الإسلامية في السياسة السودانية بذلك المفهوم حتى صارت قضايانا تحل في العواصم الأجنبية. وإذ هو يجوز للإسلاموي أن يتوفر له رباط تعاون مادي وفكري مع المسلم السعودي، والقطري، والباكستاني، أو الأمريكي، أو التركي، فما الذي يضمن للسياسة السودانية حين تنتخب المحبوب في زمن ديموقراطي قادم كرئيس للبلاد أن يتحرر من رباط علاقته الخارجية، وألا يغامر بأيدلوجيته لاتخاذ الموقف الخطأ من صراع سياسي قد يجر البلاد إلى تدخلات دولية، كما حدث في حالة نظام الإنقاذ. فالحركة الإسلامية لم تجلب التدخل فحسب وإنما تصرفت في البلاد بحسب مرجعيتها التي لا تراعي مصلحة أهل البلاد في استقبال وتبني المتطرفين ودفع الثمن في ذلك. إن الحركة استثمرت فقط وعيها ولا وعيها المتضامن مع الإسلامي الخارجي في تأسيس المؤتمر العربي الإسلامي والذي منذ يومه الأول بدأ التدويل الذي أضطر قادة الحركة الإسلامية إلى التنازل عن الفكرة الأسلمة العالمية بعد أن صار وجودهم في كف عفريت. ولكن كون أن يفرض مكتب المؤتمر العربي الإسلامي في الخرطوم متاعب سياسية واقتصادية على السودانيين فذاك لم يكن أولوية القيادة الإسلاموية.
ومن هذا المنطلق فإن "غازية التدويل" التي يشير إليها الأستاذ المحبوب وجدت بذرتها المسمدة داخل نظرية الحركة الإسلامية الذي يريد أن يعيد إليها تماسكها لتنداح دوائرها أثرا طيبا في الرسالة العالمية. وألا يتفق معنا المحبوب على أنه من الصعب للذي يدخل يديه في نار التواصل – أو التورط - الخارجي من أجل حسابات أيديولوجية، لا وطنية، ألا يتقبل نتيجة طموحه السلبي. فقديما قال الإعرابي قس الساعدي، في معمعة إثبات وجود الإله، إن "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير..فكيف بسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج؟". ويقول الخواجات "You Can't Have it Both Ways" . فالذي يريد دعم المجاهدين في سوريا وأفغانستان عليه أن يثبت قدرته على ما يفرز ذلك من تدويل. وعلى الحزب الذي يتلقى دعما اقتصاديا من بلدان الخليج، أو العراق، أو ليبيا، أو إيران، أن يدرك أن ذلك الدعم هو مقدمة لارتباطه بتحالفات تدول الواقع المحلى للحسابات الإقليمية أو الدولية. إذن لا بد من دفع الثمن في محاولة الولاء للمكون الإسلامي الخارجي أكثر من الولاء للمكون المحلي.
والواقع أننا نعيش في عالم متداخل، وجديد في طبيعته. فالتدويل، أردنا أم لم نرد، حادث بالسلب والإيجاب في كل قضايا بلدان العالم إلا التي أنجتها أسباب عديدة من التورط فيه. وتكوين الدولة القطرية الإسلامية نفسه هو نتاج تقسيمات دولية، وسوداننا هذا لم يكتسب قيمته ووجوده إلا بعد أن حدد جغرافياته المتنافسون الاستعماريون على استغلال ثروات القارة. فرفض التدويل الآن في المأساة السودانية يبدو كأنه تفسير الماء بالماء. ولعل الأستاذ محبوب، وهو يستهدي بمالك بن نبي، يدرك أن هذا المفكر قال من قبل إن بلداننا المسلمة لديها القابلية للاستعمار، وهو قمة التدويل. ومن ناحية أخرى فإن "فزّاعة" التدويل والتدخل الأجنبيين لا تتصل بقادة الحركة الإسلامية فحسب، فكثير من النخب الذين يدينون التدويل الحادث الآن في السياسة السودانية هم من بذروا بذرته. فالصادق المهدي الذي يفزعنا كل يوم بخطر التدويل والتدخل الأجنبي في قضايانا هو الذي بدأه وعززه في الجبهة الوطنية التي انطلقت من ليبيا، وكذلك حين سمح لحزبه أن ينشط عبر إثيوبيا وإريتريا بدعم من مصر لتغيير النظام. ولعل الإمام قد أرسل مندوبه للقاء مادلين أولبرايت في كينيا ضمن وفد التجمع الوطني المعارض لدعم توجهات التغيير ساعة عشرية الإنقاذ. وقبل كل هذا وافق رئيس الوزراء السابق، بدعم من غالب الأحزاب القومية، بما فيه حزب المحبوب، إلى العراق لجلب السلاح الذي يسترد للبلاد عبر عملية "وثبة الأسود" مدينة الكرمك من الحركة الشعبية عام 1988.
مصطلح التدويل يا أخي المحبوب مصطلح فضفاض حين يرتبط بأدبيات ووثائق أحزابنا. فمتى ما خرجت من السلطة نشدت الاستعانة بالأجنبي الأفريقي، أو العربي، أو المسلم، أو الدولي لتحقيق أهدافه. ولكنها حين تصل إلى السلطة تتاجر بأي دعم للمعارضة يربطها بدول الجوار وتعد ذلك بأنه نوع من الارتزاق والعمالة. ومفهوم التدخل الذي يحذرنا منه المحبوب يتساوق مع مفهوم التدويل في الذهن السياسي السوداني. ولكن الحقيقة أن لا انفصام بين التدويل والتدخل الدولي. فكل مفهوم يعني الآخر. ولكن أيضا يفهم التدخل الدولي، بحسابات أخرى، من خلال علاقة بلادنا الثقافية والسياسية في تثاقفها مع العالم فمثلما يتدخل العالم في شؤوننا فنحن كذلك نفعل.
والأستاذ المحبوب يدرك أن فترة ما يسميها العشرية الأولى سنت جملة تدخلات سياسية سودانية في شؤون الدول من حولنا لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد. بل إن المحبوب نفسه يحدثنا بشكل أقرب إلى الفخر عن تدخل الحركة الإسلامية في شؤون الدول الجارة وتغيير أنظمتها لصالح المشروع الحضاري، فيقول لا فض فوه"...أحرزت الإنقاذ الأولى اختراقها الثاني الكبير إلى الحدود الشرقية، بدعمها الأتم لفصائل الثورة الأثيوبية والثورة الإريترية وجلب التأييد لها من الدول العربية، التي أكمَلت إنجازها التاريخي باستلام كامل الترابين الإريتري والأثيوبي وإسقاط نظام (الدرق) الماركسي في أديس أبابا، وتحرير مصوع ثم أسمرا. فقد ظلَّ استقلال إريتريا هدفًا إستراتيجيًا في أجندة الحركة الإسلامية السودانية وصَلها بفصائل التحرير منذ نشأتها، وظلَّ رئيس جبهة التحرير الإرترية الراحل (عثمان صالح سبي) ضيفًا دائمًا على برامج الحركة السودانية طيلة عهد المصالحة الوطنية مع نظام جعفر نميري، وعندما اشتدت بالفصائل الإريترية الانقسامات والتشقُّقات، بذلت الحركة السودانية جهدًا مقدرًا في توحيدها وجبِر أضرارها حتى تنجز هدفها المشترك. كما أن أيلولة قيادة العمل السياسي والمسلَّح إلى الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا ونجاحها في توحيد الجهاد الإريتري".
إذن إذ كان التدخل مباحا لإنسان ما بحسابات إستراتيجية ذات ملمح أيديولوجي فلماذا لا يتصور هذا الإنسان نفسه أن "غازية التدخل" الدولي في شؤون السودان لديها أيضا حساباتها السياسية، والأخلاقية، والأيدلوجية، والاقتصادية؟ وإذا كان المحبوب يتصور سلفا أن التدخل في شؤون الغير حلال وردهم صاعين حرام فذاك هو عمق التناقض الأخلاقي الذي لا يبيحه دين أو عرف.
ولا تنتهي "غازية التدخل" عند شؤون داخلية إثيوبية وإريترية، فيحدثنا المحبوب عن التدخلات في شؤون الدول المجاورة بقوله: "كان الجوار العربي الأقرب للسودان هو الأقرب للتجاوب مع طموح الإنقاذ الإستراتيجي، وإذ لم تمض خطوة الوحدة مع ليبيا على نحو ما وصفنا، فقد التَقت مصلحة السودان وليبيا في تغيير النظام الحاكم في تشاد، لينصب في ديسمبر (كانون الأول) 1990 م نظام جديد برئيس جديد وعصبية قبلية جديدة لازمة لاستقرار اُلحكم". أيحق بعد كل هذا أن نصدق أن المحبوب قد أعمل مراجعاته العميقة في تجربة الحركة الإسلامية في السودان؟.
salah shuaib [[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.