مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانقاذ الاولى وكتاب المحبوب عبد السلام
نشر في السودان اليوم يوم 28 - 12 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
الإنقاذ الأولى: الثقب الأسود وخيوط الضوء
قراءة في كتاب المحبوب عبد السلام :
دائرة الضوء وخيوط الظلام
[email protected]
محمد إبراهيم العسقلاني
النموذج التفسيري
قّدم الأستاذ المحبوب عبد السلام نموذجا تفسيريا تحلل داخله أحداث العشرية الأولى للإنقاذ ،من خلال صورة مجازية في شكل دائرة للضوء ترمز إلى قواعد وأصول ومخططات الحركة الإسلامية وقيادتها الرشيدة ، ثم خيوط للظلام تسللت من مواقع نائب الأمين العام لتفسد كل شيء
فتعتم الرؤى وتحبط المساعي وتمنع إنفاذ المطلوبات وتسوف آجالها حتى انتهت إلى المفاصلة .
ولعلنا في هذه القراءة لكتابه نحاول إن نقدم نموذجا تفسيريا مغايرا يقوم على صورة مجازية مختلفة هي الثقب الأسود الذي يبتلع كل خيوط الضوء .
فرؤيتي تقوم على أن ثقبا اسودا قد احتل مركز تفكير الحركة الإسلامية منذ أوائل السبعينات تجسد في إستراتيجية التمكين العامة التي اعتمدت الخيار العسكري – الانقلابي للوصول إلى السلطة ، باقتراح ثم تشجيع من عناصر لها ماض مع الحزب الشيوعي السوداني في النصف الثاني من الستينات ، وقد لاقى الاقتراح رفضا واستهجانا من قادة الحركة يومها بمن فيهم الدكتور الترابي ، ومعظمهم من أهل الفكر ويسود بينهم حس اسلامى سليم ،ويعيشون في أجواء التجربة الديمقراطية الثانية ،ولكن بعد الانقلاب المايوى تغيرت الأمور ، واعتبر هؤلاء اكادميون مثاليون يعيشون في أبراج عاجية ولا يصلحون لمواجهة الأساليب الخسيسة من الشيوعيين ، الذين يعرفون خصومهم جيدا لذا اعتقلوا قادة الحركة الإسلامية قبل قادة الحكومة المنقلب عليها . فأعادت القيادة الاعتبار للاقتراح المرفوض سابقا وتبلور في إستراتيجية الحركة العامة وتنزل إلى ارض الواقع مع الخلايا الأولى داخل القوات المسلحة والمكاتب الحركية الخاصة ، فكان العقل الانقلابي والإستراتيجية الانقلابية والثقب الأسود .
أصحاب السوابق
سككت هذه التسمية من عبارة الأستاذ المحبوب وهو يصف مصدر الاقتراح بإنشاء خلايا عسكرية داخل الجيش لتامين الحركة ثم تمكينها ( من ذي سابقة في الحزب الشيوعي ... ) ، لألفت نظر الحركة الإسلامية إلى خطورة الاختراق الفكري الذي يحمله القادمون إليها من معسكرات التغريب والعلمنة .
والمقصود هو الشيخ ياسين عمر الإمام متعه الله بالصحة والعافية ، ومهما يكن الأثر الجرثومي للفكرة فان ضعف مناعة الجسم الحركي كان واضحا ، فقد لفظت الحركة الإسلامية الرجل الأول فيها المرحوم الرشيد الطاهر لما تورط في محاولة انقلابية ، ورفض مثقفوها اقتراح الشيوعي التائب لأول وهلة ، ثم تبدل الحال بعد الانقلاب المايوى ، وأصبح المقترح حجر الزاوية في إستراتيجية الحركة الإسلامية ، ليعلق الأستاذ المحبوب : أثبتت الأحداث بعد نظر الشيوعي السابق وختل منطق الأكاديميين !! أو كما قال .
إذا هاهو الحجر الذي رفضه البناءون صار حجر الزاوية . وتائب شيوعي آخر هو الأستاذ المرحوم أحمد سليمان المحامى ، جاء إلى الحركة الإسلامية محرضا على الانقلاب ثم لعب دورا في التواصل مع الأمريكان !
وبعد نجاح الانقلاب اقترح الشيخ لينين ! أقصد ياسين : العنف الثوري!! أي التصفية الجسدية للزعامات الحزبية والطائفية ، ولكن الله سلّم فساد منطق الأكاديميين هذه المرة ورفض اقتراح الاسلامى المخضرم .
العقل الانقلابي
إن إستراتيجية التمكين العامة التي اعتمدتها الحركة الإسلامية في السبعينات تبنت الخيار الانقلابي كآلية لاقتناص السلطة كاملة ، وهو ما وقع بالفعل عام 89 ليمثل نجاحا باهرا في عالم الإجراءات وسقوطا مدويا في عالم المنهاج !
والأستاذ المحبوب عبد السلام – في كتابه الذي نتناوله بالتعليق - خصص مساحة جيدة لمناقشة انقلاب الإنقاذ ، حيث اكتفى بالاعتذارات السائدة التي تشير إلى أن الغرب لن يسمح بتجربة ديمقراطية عبر اقتراع حر ،و الخلايا العسكرية للآخرين بدأت التسابق نحو استلام السلطة وتضمر شرا للحركة الإسلامية وذلك علاوة على أحداث مثل اتفاق المرغنى – قرنق ومذكرة القيادة العسكرية وحكومة القصر .
ثم الزعم بان الانقلاب ليس تقليديا بل له خطة انتقال باتجاه التطور الدستوري نحو الحريات والديمقراطية !!
ولم تخل الحركة يومها من قائم بالحجة فقد برزت أصوات رافضة للانقلاب، عرض الأستاذ المحبوب وجهة نظرها ولكنه انحاز إلى رؤية القيادة التنظيمية – كعادته - ، فلنناقش هذه الرؤية واعتذاراتها :-
1 أغفلت الاعتذارات العقل الانقلابي الكامن وراء العملية الانقلابية ، وهو عقل يقوم على استعجال واستسهال الوصول إلى السلطة ويريدها مطلقة لا مقيدة ليفرض رؤاه من أعلى ويصفى خصومه حتى يخلو له الجو وحده ثم يطلب الطعن والنزال ! أو قل يبنى التعددية- المزعومة -والحكم الصالح- المفترى عليه- ، انه منطق إخوة يوسف ( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ثم تكونوا من بعده قوما صالحين )
2 الزعم بان الانقلاب ليس تقليديا لأنه يمتلك رؤية وخطة ستنتهي إلى الانتقال الديمقراطي ، هو نفسه زعم تقليدي لان جميع الانقلابات زعمت أن دكتاتوريتها مؤقتة ثم أخلفت وعدها العرقوبي بالديمقراطية بلا استثناء ،هذا إذا غضضنا الطرف عن ملاحظة الأستاذ المحبوب عن استلام السلطة قبل اكتمال الرؤية المدعاة وإذ اكتملت إستراتيجية التمكين العامة و أصابت النجاح نحو تمام قبض السلطة بنجاح الأجهزة الفنية ، فان الرؤية للمجتمع الذي نريد لم تكتمل فلسفة أو شخصا في مثال ) ص : 461
3 أما مصادرة الحرية والتعددية فيعتذر عنها بأنها ضرورة مقبولة مبدئيا بإجماع أحزاب الجبهة الوطنية ) أما في التاريخ القريب ... وقد وقع بعضهم على دستور الجبهة الوطنية... الذي يقر أن يحكم السودان بحزب واحد حتى يتهيأ للديمقراطية ، ويمكن إذا من ثم أن تعطل الحرية وتقبض ثم تبسط ) ص : 92
أما متى تعاد الحرية ؟ فأمر تنظر فيه الحركة لتعيدها في اقرب وقت مناسب !! ولاغرو فهي الوصي على الشعب .
) : ومهما قبضنا الحرية فهي ضرورة تقدر بقدرها لاستقرار الثورة واستتباب الأمن ترد على الشعب ليختار من يحكمه في الوقت الأقرب الأنسب ، تقرر ذلك الحركة ) ص : 98
إذا فالانقلاب مقبول والإعداد المبكر له لازم والرافضون لذلك أكاديميون تبين ختلهم ، ومصادرة الحرية والتعددية ضرورة يبررها دستور الجبهة الوطنية ،و الوصاية على الشعب مؤقتا لا حرج فيها حتى تؤمن الحركة وتطمئن .
أما النقطة الفاصلة بين حق الحرية وباطل الاستبداد فهي الدعوة إلى حل مجلس قيادة النصبة !! ( استوحينا هذه التسمية من عبارة غريبة دقيقة يصف بها د الترابي انقلابه قائلا : ( فانتصبنا على السودان ...) عبرة المسير .
يقول الأستاذ المحبوب : ( فمنذ الدعوة إلى حل مجلس الثورة امتد إيمان بالمجتمع والشعب ورسخ مقابل له إيمان بالدولة والسلطان ) ص : 462
أرأيت ؟ هذا هو الفرقان الذي قسم الحركة فسطاطين !
انه إخلاف العسكر لوعدهم بتسليم السلطة الموثق بأيمان مغلظة، حين تمسكوا بالصفة والرتبة العسكرية مما تقتضيه ضرورات لعبة السلطة .
ليس العقل الانقلابي ولا الإستراتيجية الانقلابية التي استبعدت الثورة خوفا من الفوضى والتفت على الخيار الديمقراطي وفضلت انقلابا بلا دماء –زعموا –
مع أن تاريخنا اثبت أن الثورة ممكنة بلا فوضى ، وهل سالت الدماء إلا في أعقاب الانقلابات ؟ وهل ضاعت الأوطان إلا بالاستبداد ؟ يقول الأستاذ المحبوب : ( فإذا بلغنا السلطة انقلابا محدودا بغير كلفة في الدماء أو ثورة تطيح بالأطر الناظمة للمجتمع فوضى قبل النصر ) ص : 461 .
طريقان أعوجان
انقسمت الحركة الإسلامية من أعلى إلى أسفل ، فلننظر في خلفية الافتراق بين القيادتين التنظيمية و العسكرية .
جرت سنن الانقلابات في مجراها، حيث تصورت القيادة التنظيمية أن العسكر واجهة مرحلية ،يجب أن تسلم السلطة بعد نجاح الانقلاب واستقراره . إذ لولاها ما وصل العسكر إلى الحكم ولا نجح انقلابهم ، وقد تولى القائد العسكري السلطة بأمر الحركة واقسم على طاعتها ورد أمانتها.
أما القيادة العسكرية فلا ترى أنها مرحلية ،بل هي سدرة المنتهى وعندها جنة المأوى ،فقد حملت أرواحها على أكفها ليلة ...الخ . ثم دقت ساعة الحقيقة ، يقول الأستاذ المحبوب :
( ولكن في اللحظة الحاسمة امتثل للقرار الذي يوافق خطة الحركة دون أن تخلع البزات العسكرية إلا من عضو واحد في مجلس الثورة رضي بقرار الحركة الذي أعفاه من القوات المسلحة ليعينه رئيسا للمجلس الوطني الانتقالي ، أما الرئيس ونائبه فقد احتفظا بمنصبيهما إضافة إلى زيهما العسكري ...)ص : 135
إذا فقد أخلف العسكر وعدهم وعلموا أن الإعفاء من الجيش مقدمة لإزاحتهم فتمسكوا بالبزة والكرسي معا .
إن حل مجلس قيادة النصبة لا قيمة له من المنظور الديمقراطي ، بل قيمته من المنظور السلطوي ، وفى إطار لعبة السلطة ومن سينفرد بها عقب حل الواجهة الجماعية هكذا علمتنا تجارب الانقلابات ، فقد حلت كل مجالس النصبات لينفرد احدهم بالسلطة .ولكننا نجد الأستاذ المحبوب يجعل من حل مجلس قيادة نصبة 89 مؤشرا على التحول الديمقراطي وتعبيرا عن الإيمان بالحرية والمجتمع ومحكا للفرقان بين أنصار الشورى وأنصار الاستبداد !! لا لشيء إلا أنها الحادثة التي أظهرت نيات العسكر في إخلاف وعدهم مع قيادة الحركة الإسلامية فكان ذلك أساسا للمغاضبة ثم المفارقة بين الطرفين .
ومن هنا كانت مقولة ( نقض العهود والمواثيق ) هي المقولة الأساس في الخطاب السياسي لقيادة التنظيم حينها قبل التركيز على مقولات مثل ( الحرية ، اللامركزية ، الشورى ) أو ما يعبر عنه د الترابي ب : ( الأصول التي قامت عليها حركة الإسلام ) وهو ما يسميه الأستاذ المحبوب ( البرنامج الاسلامى للحكم ) ونحن معهما في أن الإنقاذ قد ضربت تلك الأصول الشيء الذي يتطلب مفارقتها ، إلا أن ذلك كان عام 89 وليس عام 99 .
أما أن تكون جريرة الإنقاذ أنها أخلت ب: ( قسم تولى رئاسة الجمهورية ) فهو ما لا قيمة له من منظورنا، لأنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق - كما وصف فصحاء العربية وعد بلفور - ولكننا منذ ( اذهب إلى القصر رئيسا ) تعودنا أن من لا يملك يعطى من لا يستحق .
وما ذكرناه لا يعنى أننا نختزل الصراع بين الطرفين في مسألة القيادة والسلطة فهناك أبعاد أخرى تتعلق بالرؤى والأساليب ، ولكننا ركزنا على الصراع السلطوي لان الكتاب الذي نعلق عليه يكاد ينكره خصوصا من جانب د الترابي ، فكان لابد أن نبرز هذا البعد ونؤكد على انه كان من الطرفين ولم يكن من جانب المشير وحده ، فقد أشار الأستاذ المحبوب إلى من اسماهم (مجموعة التبديل الكامل للقيادات ) التي كانت
تستهدف القيادات المحسوبة على المشير البشير ، كما أشار إلى ما يمكن أن نسميه تدابير صراع(ولكنه جعل كل ذلك بمعزل عن د الترابي ) مثل إلغاء الكلية القومية في المؤتمر العام أو التعديلات الدستورية المتعلقة باستحداث منصب رئيس الوزراء – اقسم غير حانث أن دالترابي كان سيتولاه بنفسه – والمطالبة بانتخاب الولاة- والمقصود ربط تعيينهم بترشيح أمانة التنظيم - ، وبالفعل تستحق هذه التعديلات لقب انقلاب برلماني لأنها تجعل الولاة والوزراء –أّى السلطة الفعلية – تحت قبضة د الترابي لولا الانقلاب المضاد في رمضان ديسمبر 99. وهذا هو الوصف الدقيق لما حدث انقلاب وقائي أو استباقي وليس مؤامرة دولية ولا ثورة تصحيحية .
وبالفعل شهدت تلك الفترة اختلافات في الرؤى حول هامش للحريات وتعدد منضبط للأحزاب وكان د الترابي على رأس الداعين لذلك وهو ما لم يصادف هوى عند كثيرين ولكن ذلك الجدال لم يكن أساسا للمغاضبة والمفارقة – وهو ما يفسر وجود ابرز الرافضين للتوالي السياسي في المؤتمر الشعبي والمؤيدين له في المؤتمر الوطني – لان الرؤية التي انتصرت هي رؤية دالترابي رغم خسارته للصراع .ولعل هذا يعطى وجاهة لمقولة الأستاذ الحاج وراق عن ( ترابية بدون ترابي ) وان جاءت في سياق آخر .
دور الأمين العام
وضع الأستاذ المحبوب شيخه الدكتور الترابي في مركز دائرة الضوء ، بل هو السراج الذي ينبعث منه الضوء ،في حين تتسلل خيوط الظلام من مواقع نائب الأمين العام الأستاذ على عثمان .
وهنا يبرز سؤال عن إمكانية تبرئة الأمين العام من خطايا الإنقاذ الأولى ؟ كيف يكون ذلك ؟
جاءنا الأستاذ المحبوب بالحل الآتي : لم تكن للشيخ الترابي علاقة بالسلطة فقد فوض سلطاته لنائبه من اليوم الأول وذهب إلى السجن حبيسا ثم الإقامة الجبرية ثم حادثة كندا والنقاهة الصحية ، فلما عاد إلى الساحة كان نائبه قد تمكن من جميع الخيوط بالتنسيق مع العسكر فتحايلوا وتماطلوا في رد الأمانة كلما حاول د الترابي أن يسترد وديعته ،إلى أن وقعت المواجهة - حول الحرية والتوالي السياسي - التي انتهت إلى المفاصلة دون أن يسترد د الترابي سلطاته التي فوضها إلى نائبه .
إذا فالصورة التي يقدمها الكتاب تجعل الأمين العام يختفي من خشبة المسرح منذ اليوم الأول ولا يعود إلا محاربا من اجل الحريات و التوالي السياسي ثم مفارقا للنظام بعد أن عجز عن استرداد ما فوض من سلطات وصلاحيات .
وهذه الصورة في رأينا منقوصة للاتي :
1 الدكتور الترابي هو الأمين العام للحركة الإسلامية الذي وضعت إستراتيجية التمكين العامة تحت قيادته .
2 د الترابي هو عرّاب العملية الانقلابية الفنية في أدق تفاصيلها ليلة الخاتم من يونيو 89 . وكان على رأس السبعة الكبار الذين اشرفوا عليها إعدادا وتنفيذا . ( وعلى ذكر السبعة فقد تقرر في إطار الإعداد للانقلاب أن يسجن اثنان، و يحكم اثنان، ويبقى آخران يرقبان، ويحفظ واحد في الخارج . واليوم بعد ربع قرن من الزمان مازال الأوليان يرتادان السجن ،ويمسك الآخران بالحكم والإدارة ،ومن دونهما اثنان يزودان ،والواحد محفوظ في الخارج !!)
3 إن كان للنائب صلة بالعسكر فبوصفه ممثلا لقيادة الحركة الإسلامية . فكيف نحمله المسئولية دون أن نتساءل عمن كان ينوب ؟
4 مضت رؤى دالترابي وأساليبه خلال العشرية الأولى دون معارضة تذكر ، إلا في موضوع الحريات و التوالي حيث لاقى معارضة شديدة ولكنه انتصر في النهاية والاستثناء الوحيد هو تراجع القيادة العسكرية عن خلع البزة بعد حل مجلس النصبة 93 .
أما عن الموقف المتحامل على نائب الأمين الذي يبرز واضحا في كتاب الأستاذ المحبوب فقد أعياني تفسيره، لأنهم تساهلوا مع النائب يوم أضرت مغامراته البلاد والعباد ثم لم يغفروا له دوره في الانقلاب المضاد !!
لقد صّور الأستاذ المحبوب نائب الأمين العام وكأنه يهوذا الاسخريوطى الذي خان المسيح .
والحق أن الأستاذ على عثمان بذل جهده لمنع الصدام بين د الترابي والمشير البشير فلما وقع - رغما عنه – انحاز إلى جانب المشير ولكن يبدو أن العشم كان كبيرا لذا بدت خيبة الأمل عظيمة . أما الزعم بأنه يصدر عن أجندة خاصة منذ أمد طويل تهدف إلى إزاحة دالترابي ليحل محله فزعم باطل . والزعم بأنه الطاغية المستبد عدو الحريات بينما المشير واجهة بريئة له، ودالترابي إمام الحريات وداعيتها فمن أبطل الباطل ، لان الحق هو أن الأستاذ على عثمان كان ومازال الرجل الثاني في نظام الطغيان والاستبداد بينما المركز الأول شراكة بين د الترابي والمشير البشير طوال العشرية الأولى التي يعالجها الكتاب .
خيوط الضوء
آن لنا أن نتحدث عن خيوط الضوء التي ابتلعها الثقب الأسود الذي شرحناه – وهو النظام العسكري الاستبدادي المنعوت بالإنقاذ- الناتج عن عقل انقلابي وإستراتيجية انقلابية .
ولعل ابرز ما ذكره الأستاذ المحبوب في كتابه :
1 مؤتمرات الحوار : بدأت الإنقاذ الأولى بظاهرة المؤتمرات الحوارية - قبل نظام المؤتمرات – التي استجاب لدعوتها قطاع من المثقفين ثم انتهت إلى لاشيء . يقول الأستاذ المحبوب: ( لكن أفكار المؤتمرات الكثيفة القيمة كانت تحتاج خطوات مشابهة لتطوير النظام كله والتجاوز السريع لطبيعته العسكرية المغلقة وهو ما لم يفلح فيه حتى مؤتمر الحوار السياسي ) ص : 129
لاحظ معي كلمة لكن لأنها تعبر عن ابتلاع الثقب الأسود لخيط الضوء ، وقد كثرت في كتاب الأستاذ المحبوب فهو (يلكن ) كل فكرة أو مبادرة أو عمل اصلاحى في عهد الإنقاذ بعد أن قبل بها كإطار عام . أما نحن ( فنركل ) الإنقاذ والإستراتيجية الحركية التي جاءت بها ونطالب بالديمقراطية وقيادة جديدة للحركة الإسلامية بناء على مراجعة فكرية – سياسية عميقة وإجراءات تمنع تكرار الخطيئة مرة أخرى .
وقد عضد الأستاذ المحبوب وجهة نظر المعارضين لمؤتمرات الحوار – دون أن يقصد- : ( لكن المؤتمرات الحوارية بتواليها وانتظامها في سائر مجالات الحياة لم تدع اسما سودانيا قوميا أو محايدا أو حتى معارضا إلا و احتوته
وقد كانت تلبية الدعوة أحيانا كثيرة تقارب النسبة الكاملة ، كما أن مناخ الحوار الحر قد شجع الذين شهدوا بعضها أن يشهدوا الأخرى إذا كررت لهم الدعوة إليها وبذلك مثلت مؤتمرات الحوار اكبر حملة علاقات عامة للإنقاذ قدمتها للنخبة وعرفتها بحقيقة أفكارها كما برموزها وشخصياتها) ص : 129 . وهذه بالضبط وجهة نظر المعارضين أنها محاولة احتواء وحملة علاقات عامة .
2 سياسة التحرير الاقتصادي : ( لكن وزير المالية ورائد التحرير الاقتصادي ظل قليل التعويل على الحرية السياسية وحرية الإعلام والصحافة لتمام نجاح برامجه واستقرار نظمه وسياساته مستشهدا بدول النهضة الأسيوية وغيرها من تجارب العالم التي أصابت نجاحا اقتصاديا مقدرا مع شدة الضوابط على الحريات السياسية الليبرالية
و إذ غابت الحرية التي تنتقد سياسة التحرير في المنابر العامة أو تنصحها تبتغى الإصلاح ، أتاحت مناخات الظلام والكتمان أن يتحرك اقتصاد الشمول والفوضى يهزم أصول السياسة المعتمدة الرسمية من أعلى أجهزة الدولة ، تلزم المجتمع ولكنها لا تلزم الأجهزة التي أصبحت نافذة متنفذة ولا تردع الرموز التي أضحت لا يمنع تجاوزها مانع )
ص : 331
3 المبادرات الفردية : ( لكن المبادرات الفردية المثمرة كبتت كذلك في الإنقاذ الأولى ) ص : 138
4 الطبيعة المنفتحة للحركة الإسلامية : ( ولكن ذات الطبيعة المنفتحة التي كان يمكن أن تتيح دائما لقادمين جدد ليقودوا المراحل الجديدة أو يشاركوا في قيادتها من كل أطياف المجتمع ومدارسه الفكرية ومشاربه الثقافية تعثرت عند رغبة قيادة الحركة في ألا يفلت من يدها عقال مشروعها في الحكم ) ص: 630
5 دستور98 : امتلأ أضواء رغم العبث الذي عبث بمقترحات لجنة مولانا خلف الله الرشيد رحمه الله، باسم تأصيل اللغة تارة، و إحكام الصياغة تارة أخرى ،إلا أن ما يعنينا هو أن الدستور جاء بدعوى بناء نظام تنافسي ،ودعيت الأحزاب إلى الساحة ، ويحدثنا الأستاذ المحبوب عن صناديق الاستفتاء على الدستور وكيف أنها حملت إلى المكاتب والبيوت !! انظر : ص 406 .
فكيف تدعوا الأحزاب إلى المنافسة على هكذا صناديق ؟؟
إذا فالواجب هو إزالة الثقب الأسود لا إطلاق المزيد من خيوط الضوء كما هي أطروحات( الإصلاحيين ) داخل النظام والمراهنين عليهم من خارجه . إن الاصلاحى من الداخل لم يحرر نفسه بعد فكيف نعول عليه في تحرير شعب بأكمله ؟؟
إنها الرغبة في تغيير بلا كلفة وهو محال إذ لابد من كسر الآلة القمعية للنظام ولا يمكن تحييدها ، أو لعلها الرغبة في تغيير يهدف إلى إعادة إنتاج النظام في طبعة جديدة مزيدة ومنقحة !! باختصار ما نطلبه لشعبنا هو الديمقراطية ألان فورا وبلا قيد أو شرط وهو مالا يكون إلا على أنقاض الإنقاذ ، ولكل امة اجل ولكل اجل كتاب .
اللهم بلغنا فاشهد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.