إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



والانتقال من نموذج إنسان سنّار إلى نموذج إنسان أمدرمان(12)
نشر في سودانيات يوم 09 - 07 - 2011

في الحلقة الماضية رفعنا سؤالاً هاماً يتعلّق بالتكتيكات التي يتّبعها نموذج إنسان أمدرمان في سبيل إحكام قبضته على المجتمعات والقاطاعات المستهدفة ببرنامجه الأيديولوجي الحداثوي.
سنحاول الآن الإجابة على السّؤال التّالي: تُرى كيف تأتّى لثقافة أمدرمان أن تفعل كلّ ما ننسبُه إليها؟ في رأينا أنّها تمكّنت من فعل هذا باتّباع ثلاثة تكتيكات أساسيّة، أوّلها الالتفاف حول الأيديولوجيا الذّكوريّة للمجتمع بضخّ قيم الذّكورة عبر الأنوثة في دالّة أخلاقيّة تتّجه نحو الأسلمة، وذلك باعتبار أنّ الاستعراب قد تمّ الفراغ منه أو أصبح في حكم المنتهي. أمّا التّكتيك الثّاني فهو إنتاج مجموعة من التّابوهات عبر توظيف قيمة "العيب" كقيمة أخلاقيّة كابحة، غامضة المفهوم وغير واضحة الحدود والأبعاد، الأمر الذي يُضفي عليها قابليّة الإسقاط حسب كلّ حالة،
عامّة أو شخصيّة. وبهذا تكون لها القدرة على التّشكّل والتّحوّل، وقد يتناقض يومُها عن أمسِها، عن غدِها. وظيفة هذه القيم الاجتماعيّة ذات الأساس الأخلاقي الدّيني هو تمكين المرأة من السّيطرة على هذا المجتمع الذي يبدو في ظاهره على أنّه ذكوري. في نفس الإطار يأتي التّكتيك الثّالث بتوظيف اللغة العربيّة العامّيّة لوسط السّودان، وتطوير خطابٍ ذي صيغ تعبيريّة perlocution ذات قدرات عالية من حيث كبح أنماط سلوكيّة بعينها وتحفيز أنماط أخرى، خاصّة بأمدرمان ومنطقة الخرطوم، عبرها يكتسب الفرد صفة الانتماء إلى المنظومة، ويكون في مقدورها إتاحة أكبر قدر من التّماسك والتّعاضض، الأمر الذي سوف ينعكس في إيثار أبناء وبنات أمدرمان بعضهم البعض بالخيرات المادّيّة التي تُتيحُها مؤسّسة الدّولة بما من شأنه أن يجعلهم يسيطرون عليها تماماً، أو بصورة شبه تامّة، ما أمكنهم ذلك. وعلى هذا يتمّ إنتاج قيم سلوكيّة، قياسيّة لمفهوم الحصافة والأدب والإتيكيكت، من اتّبعها انضمّ لعلية القوم، ومن فارقها باء بنظرة دونيّة وضعته دركاتٍ ودركات في مضمار طبقات المجتمع، حضارةً وجلافةً. وتلعبُ المرأة هنا دور الرّقيب، فهي التي تصدر الحكم بالرّضى أو بالسّخط، وذلك باتّباع أسلوب بسيط يقوم على الاستحسان والإشادة المباشرة، أي تدبيج المدح. هذا من جانب؛ من الجانب الآخر تستخدم المرأة سلاحاً بدوره بسيطاً ولكنّه ناجع، ألا وهو الامتعاض والتّذمّر، ثمّ إصدار الحكم بالسّقوط إذا لم تنجح هذه التّكتيكات، والتي غالباً ما تنجح وهي لمّا تزل بعد في مرحلة الامتعاض والنّظرة الموحية بخيبة الأمل المشوب بالحرج وقليل من الغضب. وهكذا تكون النّتيجة مجتمعاً يبدو في خارجه كما لو كانت تحكمه قيم الذّكورة بصورة مطلقة، بينما هو في الواقع خاضع تماماً في حرائكه الدّاخليّة لأيديولوجيا أنثويّة بحتة. والويلُ، كلُّ الويل لمن يتمرّد، إذ قد يُجرّد من قيم الرّجولة، وهو تجريد تقوم به حارساتُ المعبد، معبد المركز. ويتبع هذا إنتاج لمجموعة من التّابوهات الاجتماعيّة التي سوف تُفضي بالضّرورة إلى خلق ثقافة منصاعة ومكبّلة، عديمة الحرّيّة، بدورها سوف تُفضي إلى حالة نفاقيّة، ريائيّة في السّلوك العام، يُنظر إليها على أنّها من وجوه الحصافة. وتكون نتيجة كلّ هذا ثقافة سينيكاليّة cynical ماحقة، لن تسمح بأيّ قدر من الإبداع إلاّ بما يحافظ على هيمنتها. أي أنّ المجتمع عليه أن يعيش على الكفاف إبداعيّاً. ففي هذا المجتمع يقع على النّساء عبء إصدار الأحكام الأخلاقيّة والسّلوكيّة، بينما يقع على الرّجال عبء إنفاذ ما ينتهي إليه الموقف من حسم شكلي، خارجي. ولهذا يمكن ملاحظة أنّه في حال أيّ تجمّع أسري (رجالي ونسائي)، تتمّ فيه مناقشة أمرٍ ذي أساس أخلاقي، سلوكي، أنّ النّساء هنّ اللائي يضعن الأسس المحاكماتيّة للموضوع قيد النّقاش، إن سلباً أم إيجاباً، بينما الرّجال يومئون بالموافقة، ثمّ توكل إليهم مهمّة الإنفاذ باعتبار أنّ هذا "واجب الرّجال"، أي نفخاً هوائيّاً في ذات الرّجولة عندهم. بالطّبع قد يكون هناك رجال ينطبق عليهم وصف "مُشاترين"، أي لا ينصاعون لهذه القوانين إمّا لخراقةٍ جُبلوا عليها، أو لاستقلاليّة كامنة فيهم، فيصدعون برأيهم أسوةً ومماشاةً لتحالف الماتريارك Matriarch (الأمّهات الكبيرات). هؤلاء عادةً ما يتمّ زجرهم (في الحالة الأولى)، أو مقاطعتهم من قبل زوجاتهم أو أمّهاتهم وما شابه (في الحالة الثّانية) إسكاتاً إجباريّاً لهم، فلا تترك لهم فرصة للتّعبير عن وجهة نظرهم، استباقاً للتّعبير عن ذات وجهة النّظر وربّما بذات ألفاظها، ولكن بما يضمن مكانة الماتريارك. لتوضيح هذه الصّورة التي يسيطر فيها النّساء على المجتمع، سوف نضرب مثلاً حيّاً من واقع الحياة الاجتماعيّة في أمدرمان (وتتبعُها بالطّبع باقي المراكز الحضريّة، مثل الخرطوم والخرطوم بحري وباقي المدائن الأبعد جغرافيّاً، التي تخضع جميعُها لنفس الأيديولوجيا). عُرفت الثّقافة الرّجاليّة (أي متى اجتمعوا) في أمدرمان بثلاث موبقات (حسب المعيار القيمي الأيديولوجي لأمدرمان)، وهي: مجالس شرب الخمر، لعب الورق (الكوتشينة)، والقمار. ولهم طقوس في ذلك، إذ منهم من يسمّي مكان اجتماعهم بالملعب، أو ما شابه. والملعب عادةً ما يتناوبون عليه بمعدّل مرّة كلّ أسبوع بمنزل أحدهم على أقلّ تقدير (وهو المعدّل المنضبط، وليس المنفلت الذي قد يكون يوميّاً أو كيفما اتّفق). وشرب الخمر في المجتمعات السّودانيّة بعموم يعود إلى ثقافة كانت راسخة فيه، وإن كانت قد تضعضعت في أكثر أقاليمه الآن جرّاء تصاعد تيّارات الأسلمة. في هذا كانت المجتمعات النّيليّة بالإقليم الأوسط والشّمالي لا تقلّ رسوخ قدمٍ في مسألة شرب الخمر عن باقي الأقاليم الطّرفيّة قليلة درجة الاستعراب. فهذه المجتمعات لها وشيجة قويّة بالحضارات النّوبيّة القديمة، وهي حضارات كان للخمر فيها مكانة كبيرة. وفيما بعد، عندما قامت الممالك النّوبيّة المسيحيّة، اكتسبت الخمر مكانة تعبّديّة كبيرة لدرجة أن يُدخلَها النّوبيّون ضمن السّلع المتبادلة في اتّفاقيّة البقط، إذ ألزموا العربَ المسلمين بمدِّهم بها من مصر التي كانت زراعة الكروم رائجة بها. ويحكي العديد من الرّحّالة الذين زاروا السّودان إبّان دولة الفونج عن كيف كانت الخمر تمثّل جزءاً من ثقافة القوم على النّيل. وفيما بعد، إبّان الحكم الاستعماري المصري المستترك، ثمّ بعده الحكم الاستعماري البريطاني المصري (باستثناء فترة الدّولة المهديّة من النّاحية الرّسميّة)، اكتسب شرب الخمر مكانة صفويّة، إذ دخلت إلى البلاد أصناف من الخمور والكحول المعدّة بطريقة تصنيعيّة متقدّمة، فتميّز بها علية القوم. وحتّى في عقود القرن العشرين، والعقود الوطنيّة منها بالخرطوم وأمدرمان، ثمّ بالمراكز الحضريّة، بخاصّة، لم يكن شرب الخمر قد فقد احترام النّاس وفقما نراه الآن. إذ درج النّاس على أن ينظروا إلى السّياسي الحقّ على أنّه ذلك الذي لا ينتهك حرمات أو أعراض النّاس، مع عفّة اليد واللسان. أمّا شربُ الخمر فكان ممّا لا يُعيب السّياسي، بل يُنظر إليه على أنّه من لوازم الرّجولة. هذا ما كان من أمر شرب الخمر في مجتمع أمدرمان (أي مجتمع المدينة بعموم) وإلى عهدٍ قريب، فلننظر كيف تبدّل الحال، ولماذا. إذ جاء زمن قريب بدأ بعام 1983م عندما أعلن الرّئيس الأسبق جعفر نميري السّودان كدولة جافّة خمريّاً. ومنذ تلك اللحظة ظللنا نشهد بأمّ أعيننا آليّات اصطناع وخلق التّابوهات وهي تعمل بلا كلل ولا ملل، حتّى هلّ علينا زمن بُعيد ما لا يزيد على العقدين، فإذا شربُ الخمر قد أصبح أكثر التّابوهات حرمةً وشناعةً. وأصبح السّياسيّون يتحامون شربَها، ومن اجترأ على ذلك فعلها خِفيةً. في مقابل هذا استشرى بين السّياسيّين، وغيرهم من باقي القطاعات الصّفويّة وغير الصّفويّة، مرض استعراض النّساء والفتيات واستدراجهنّ والتّغرير بهنّ، يترصّدهم في ذلك بوليس الآداب، ينفث من سمّ أحقاده الطّبقيّة المرضيّة. فلننظر إلى اجتراء القوم على انتهاك الأعراض، فلا يلحق بهم الشّنار، حتّى إذا ما ضُبطوا متلبّسين بشرب الخمر، لحقت بهم الفضيحة. بالعودة إلى اجتماع الرّجال في منزل بعينه أسبوعيّاً، تحرسهم نساؤهم، نلاحظ أنّ ما يميّز هذا اليوم، فيما نحن بصدده، إيلاء نسوان أمدرمان أقصى اهتمام له، من حيث إعداد الطّعام وحالة الاستنفار العام بينهنّ تحضيراً له، الأمر الذي يضخّ في رجالهم عبوّات زائدة ومفرطة من قيم الذّكورة. وقد استمرّت هذه العمليّة لعدّة عقود منذ بدء القرن العشرين لينتهي الأمر بيوم المحفل هذا إلى مجرّد جلسة بريئة يلعب فيها الرّجال الكوشتينة دون شربٍ للخمر أو لعبٍ للقمار، تحرسُهم فيها نساؤهم بصرامة ترتعد لها فرائصُ الرّجال. فقد نجحن، وبدرجة كبيرة، في إدخال شرب الخمر إلى قائمة التّابوهات غليظة التّحريم. ولكن لم ينجحن بنفس القدر في تحريم القمار، إذ لا تزال تدور به موائد أكثر الرّجال من قبيل ثقافة أمدرمان، ولكن أغلب الظّنِّ إلى حين، هذا إذا استمرّ الحالُ كما عليه وفق هذه الوتائر التي انتهت بشرب الخمر إلى أن يكون بمثابة أمّ الكبائر لغالب رجالات ثقافة أمدرمان. وهذا يُشير إلى أنّ تيارات الأسلمة والاستعراب في مآلاتها النّهائيّة واعتلاقها بمؤسّسة السّلطة السّياسيّة غير بعيدة عن حرائك التّمركز والتّهميش وإعادة الإنتاج التي أعطتنا في ناتجها النّهائي الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة وكلّ هذا الشّطط الدّيني المتمثّل في حركات الهوس الدّيني. وهكذا برزت مدينة أمدرمان بوصفها أكبر معمل لتصنيع المراكز الحضريّة (بفضل اعتلاقها بمرسّسة الدّولة المركزيّة) في السّودان، عبره يمكن لجميع السّودانيّين أن يلجوا إلى الحداثة القائمة على الحلول الوسطى بغية تدجين كلّ عوامل الانطلاق نحو حداثة حقيقيّة. وقد اتّبع المركز في هذا مجموعة من التّكتيكات المتنوّعة التي تلتقي جميُعها في عدم أصالتها واستنادها على تزييف الواقع بخلق صورة أيديولوجيّة غير صحيحة وإن بدت ذات جاذبيّة ومقنعة. من ذلك تكتيك اصطناع تراميز تضليليّة، أكان ذلك على مستوى الأشخاص أو الجغرافيا. ومنه تصوير أمدرمان نفسها على أنّها رمز للعراقة والتّاريخ بالرّغم من أنّ الجميع يعلم بأنّها تقع ضمن أحدث المدن السودانيّة توريخاً. وكذلك ترميز شخوص بعينها ممّن وُلدوا بأمدرمان على أنّهم آباء الوطنيّة والنّضال دون أن يكون هناك سند قوي وواضح من التّاريخ لهذه الدّعاوى التي لا تنفصل في جوهرها عن تمجيد الذّكورة ظاهريّاً عبر تكتيك الإشادة، بينما يخضع المجتمع برجاله لنظام أمومي صارم لا يعرف الرّحمة. وضمنه أيضاً يقع تمجيد مؤسّسي العديد من الأسر كما لو كانوا قد صنعوا التّاريخ، بينما الأمر على غير ذلك. وتكمن خطورة هذه العمليّة في أنّها تشتمل على تناقضات من شأنها أن تُفشل أيّ مسعى حداثوي حقيقي. فأمدرمان هي نفسها التي ظهرت فيها حركة اجتماعيّة، ثقافيّة، سياسيّة استمدّت فهمها للوطنيّة عبر ذوبانها في الوطنيّة المصريّة (تبلورت لاحقاً في الحركة الاتّحاديّة) التي كانت تشارك في استعمار البلاد؛ وهي أمدرمان نفسها التي تصالحت فيها حركة الأنصار، كبنت شرعيّة لحركة المهديّة، مع المستعمر البريطاني الذي ألحق الهزيمة بالدّولة المهديّة ثمّ شرع في استعمار البلاد. وقد بلغ هذا الأمر درجة من التّكريس أصبح معها من المستحيل لأيّ حركة تحرير حقيقيّة أن تقفز عليه بوصفه واقعاً سلبيّاً عليه أن تتعامل معه بغية التّغلّب عليه (تكتيكات حركة اللواء الأبيض). وهذه هي نفسها أمدرمان التي حجرت على المرأة الخروج من منزلها، أي حجرت بنت المدينة، بينما كانت أختُها الرّيفيّة تخرج إلى المجتمع عاملةً في الحقل وفي السّوق وخلافه، لتعود لاحقاً فتزعم أنّ بعض بناتها هنّ اللائي قُدْنَ حركة تحرير المرأة، أي تحرير المرأة من الانتكاسة التي لحقت بها عبر تمدينها، أي عبر سكناها في المدينة (أمدرمان) وليس تمدّنها بالضّرورة. وهي نفسها أمدرمان التي حاربت الغناء وحرّمته ثقافةً وسياسةً، في المهديّة وبعدها، بينما كانت النّاس بمناطق الهامش (سلطةً وجغرافيّةً) يضجّون بالغناء والرّقص. ثمّ إن هي إلاّ برهة فإذا بأمدرمان تتصدّى للغناء فتحتكر قيادة السّودان فيه. ويقوم هذا التّناقض في خنق الإبداع ومحاربة أيّ توجّه أصيل نحو الحداثة بمختلف التّبريرات الأيديولوجيّة، وعلى رأسها الدّين، ثمّ بعد أن يتمّ هذا تقوم نفس القطاعات بتبنّي ما رفضوه، ولكن بعد أن يتمّ ترميز المسألة كلّها في شخوصها. ففي المهديّة حاول شيخ الدّين، ابن الخليفة عبدالله التّعايشي، تدشين مشروعيّة الغناء، وهو أحد مؤشّرات الحداثة لما فيه من انفتاح بحكم الخصائص الاندياحيّة للموسيقى والغناء والرّقص. وفي أواخر القرن العشرين، قام حكم الإنقاذ بتحريم الغناء ليعود لاحقاً بإسباغ المشروعيّة عليه، ولكن عبر رموزه، أكان ذلك عبر شخصيّات بعينها أصبحت تتكلّم عن الغناء بالحسنى، أو عن طريق مزاولتها للغناء والرّقص عبر رموزها وداخل نطاق مناسبات أسرها، قليلاً، قليلاً ريثما تتمّ المشروعيّة الكاملة. كلّ هذا يشي بالمقاربة الملتوية وغير الرّشيدة لموضوع الحداثة، كما لو كانت أشبه بلعبة الاستغماية. ومن الطّبيعي أن يخيب هذا المسعى الخاسر فيما نشهدُه الآن من تدهور للواقع السّوداني وتفكّك
لمؤسّسة الدّولة. في ختام هذه الحلقات، نرجو أن نكون قد نجحنا في رسم صورة، ربما غير كاملة لكنها أقرب إلى ذلك، لنموذج إنسان أمدرمان وبروزه بوصفه الصيغة الوحيدة المتاحة للحداثة من حيث اعتراف المجتمع بها. وفي راينا ان هذا الموضوع ذو صلة مباشرة بموضوع الوحدة الوطنية في السودان وتشظيه في كل الاقاليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.