أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    المريخ يكسب تجربة السكة حديد بثنائية    شاهد بالفيديو.. "جيش واحد شعب واحد" تظاهرة ليلية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور    لأهلي في الجزيرة    مدير عام قوات الدفاع المدني : قواتنا تقوم بعمليات تطهير لنواقل الامراض ونقل الجثث بأم درمان    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    تامر حسني يمازح باسم سمرة فى أول يوم من تصوير فيلم "ري ستارت"    وزير الخارجية : لا نمانع عودة مباحثات جدة وملتزمون بذلك    شاهد بالصورة والفيديو.. المودل آية أفرو تكشف ساقيها بشكل كامل وتستعرض جمالها ونظافة جسمها خلال جلسة "باديكير"    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    قرار بانهاء تكليف مفوض العون الانساني    عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام الفريق إبراهيم جابر يطلع على الخطة التاشيرية للموسم الزراعي بولاية القضارف    شركة "أوبر" تعلق على حادثة الاعتداء في مصر    معظمهم نساء وأطفال 35 ألف قتيل : منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة    عقار يؤكد سعي الحكومة وحرصها على إيصال المساعدات الإنسانية    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    ((نعم للدوري الممتاز)    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آن لسفينة الإنقاذ أن تبالي بالرياح
نشر في سودانيات يوم 18 - 07 - 2011

على مدى 22 عاما، وأهل السودان ما بين راكب فى سفينة الإنقاذ، وقافز منها، ومتاهب للركوب فيها، كثيرون قفزوا منها لما ظنوا أنها تشارف على الغرق، الجنوب بمواطنيه وبمساحته التى تزيد عن ربع مساحة السودان وبثروته النفطية التى تمثل اكثر من 70% من بترول السودان وبموارده الطبيعية المتنوعة كان القافز الأكبر من سفينة الإنقاذ، التى تتناوشها الرياح العاتية، فها هم ابناء الجنوب الذين عاشوا فى السودان الموحد لما يزيد عن قرن من الزمان، والذين شاركوا المؤتمر الوطني لفترة انتقالية محدودة السنوات، يعلنون انفصالهم أو استقلالهم عن الوطن الأم، من خلال استفتاء حر ونزيه، ويحتفلون بقيام دولتهم وعاصمتها جوبا لتشكل الدولة رقم «54» فى أفريقيا، والدولة رقم «193» فى منظومة الأمم، وها هم يعلنون أنهم أصبحوا أمة جديدة، فعلوا ذلك بعد ان شعروا أن سفينة الانقاذ لم تبال كثيرا بالمخاطر والرياح التى تناوش سفينتها وتهدد نسيج الوطن كله، وبعد أن تيقنوا أنها لم تكن تقيم وزنا لاصوات المهمشين، ها هم يفرزون عيشتهم عنا.
وكثيرون الآن يقذفون السفينة بالحجارة، ويعملون ويدعون الله آناء الليل وأطراف النهار ليغرق سفينة الإنقاذ، خاصة بعض اهل دارفور ممن حملوا السلاح فى وجه ربان السفينة، وها هى الإنقاذ تكرر نموذج أبوجا الفاشل فى الدوحة، بتوقيع اتفاق منقوص مع حركة التحرير والعدالة بقيادة التيجاني السيسي، وليت الامر توقف عند الجنوب الذي مضى الى سبيله ودارفور التى تكاد تمضى على الطريق ذاته، بل هنالك جنوب كردفان والنيل الأزرق تتأهبان لاعتراض خط سير السفينة لإغراقها، أو إرغام قباطنتها على الاستجابة لما يرونها مطالب مستحقة، لعل اهمها إزالة الغبن والتهميش الذى عانت منه الولايتان، والبت فى أمر حاملي السلاح من ابنائها، وهو الأمر الذى يحمل المؤتمر الوطني وقادته حملاً لتغليب منطق العقل وسلوك طريق الحوار لاستدامة السلام، الذى أتت به اتفاقية نيفاشا على ما سواها من السبل، أن أرادت الانقاذ لسفينتها أن تبحر وسط هذا البحر المتلاطم الأمواج من المشكلات التى تكاد تعصف بالبلد كله وليس بسفينتها، وها هم جماعة أنصار السنة المحمدية التى ما كانت فى سابق عهدها تقرب السياسة، وكانت تعتبرها رجسا من عمل الشيطان، هاهي تدعو الحكومة بالصوت الجهير لأن تلتفت لمعاناة المواطنين والضائقة المعيشية التى يعانون من ويلاتها بشكل جاد، وهو من إفرازات انفصال الجنوب التى سوف تتبعها إفرازات عديدة ما لم تغير حكومة الإنقاذ مجمل سياساتها التى تقوم على احتكار السلطة والثروة والانفراد بالرأي وحمل الآخرين على القبول به إن أرادوا امتطاء ظهر سفينتها المثقوب.
حينما قفز الشيخ الدكتور الترابي من ظهر السفينة، بعدما كان ربانا حقيقيا لها، وشكل حزبا معارضا للحكومة، سماه المؤتمر الشعبي، قال المؤتمر الوطني الحاكم أن فعلة الشيخ لن تضره، بل سوف تنفعه أيما نفع، والحقيقة ان المفاصلة بين الاسلاميين من هم فى الحكم، ومن هم فى المعارضة، أضرت كثيرا بالبلد، وعوضا عن توحيد شطري الحركة الإسلامية، صار كل شطر يكيل للآخر التهم، ويحاول أن يقصيه من المعترك السياسي، فالدكتور الترابي بلسانه الحاد، جعل الحكومة تتربص به فى كل صغيرة وكبيرة، وتدخله السجن بتهم تقطع عنقه أكثر من مرة، وسرعان ما كانت تطلق سراحه دون أن تعلن براءته فى صورة من صور الكيد السياسي المقيت، وها هو زميلنا الصحافي أبا ذر على يقبع فى سجن الحكومة، رغم انقضاء مدة محكوميته، فى إطار ذات الكيد، وها هو حزب الشيخ الترابي يراهن على إسقاط الحكومة بثورة كثورة أكتوبر وأبريل اللتين ازاحتا كلا من الفريق عبود والنميري عن الحكم.
والحديث عن سفينة الإنقاذ يذكرنا بمشهد إبحار سفينة سيدنا نوح عليه السلام التى يصورها الاستاذ عثمان قدري مكانسي بقوله: نوح عليه السلام كان يدعو قومه لا يكل ولا يمل حتى جاءه الوحي يقول «إنه لن يؤمن من قومك إلا مَن قد آمن»، ولعله حزن لكفرهم واستكبارهم، كما حزن رسول الله محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال له الله تعالى «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً» ويخفف الله عنه قائلاً «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» وقال كذلك «ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون» يقول الله تعالى لنوح عليه السلام «فلا تبتئس بما كانوا يفعلون». ويظل الإنسان يعمل حتى يطلب إليه صاحب العمل أن يقف عنه وينتهي، وصرح القرآن أن العمل يقف فقط حين تنعدم الفائدة، أما إذا كان منه فائدة - ولو قليلة - فينبغي أن يستمر. ويأسى المرء حين يدعو إلى الحق ليل نهار ويرى الناس منصرفين عنه إلى الهوى وحظوظ النفس، وكان نوح عليه السلام في إحدى حالات ضيقه من صد قومه وجحودهم قد دعا على قومه «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً» وكانت ساعة مستجابة. فقد حكم المولى على الكافر الذي نأى واستكبر بعد أن جاءه الهدى بالعقاب المناسب «إنهم مغرقون»، ولا بد من العقوبة لمن ظلم نفسه وحاد عن الحق وهو يعلمه زهداً به ورغبة عنه واتباعاً للهوى، إنّ نوحاً ظل في قومه يدعوهم إلى الله تسع مئة وخمسين عاماً يتابعهم، «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً» ويلح عليهم، ويشرح لهم وهم سادرون في غيهم، وقد كان أحدهم يأتي بولده إلى نوح ويريه إياه قائلاً: يا ولدي لقد حذرني جدك من هذا الرجل وتخرصاته، وهأنا أحذرك منه. وفيهم وفي أمثالهم يقول المولى تعالى «أتواصوا به بل هم قوم طاغون». وها هى الإنقاذ تدعو أهل السودان للركوب فى سفينتها لما يزيد عن عقدين من الزمان، ويصرح مسؤولوها أنها ما جاءت الا لإنقاذهم مما كانوا فيه من جوع ومسغبة، وأنها ما أتت الى الحكم الإ حينما كانت الأرض تنقص من أطرافها خاصة فى الجنوب، وها هو الجنوب قد ذهب ربما الى غير رجعة اللهم الا من بصيص أمل فى أن يكون علمنا الذى احتفظوا به مشكورين سبباً فى أوبتهم الى حضن وطنهم الكبير، قالت الإنقاذ فى بيانها الأول إنها ما جاءت الى سدة الحكم الا لربط قيم السماء بالأرض وتطبيق أحكام الشريعة السمحة فى كل جوانب الحياة، والكل يعلم كيف أن قوانين السماء تحكمنا اليوم فى دولة التوجه الحضاري.
والعقوبة في القرآن الكريم للأمم أربعة أنواع «فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذتْه الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»، وكان عاقبة قوم نوح وقوم فرعون الغرق. وها هو الله يعاقبنا فى عهد الإنقاذ الميمون، بحرب ضروس خاضها شبابنا المسلم فى أحراش الجنوب وروت دماؤهم ثرى تلك البقعة العزيزة، وفى النهاية ها هى الإنقاذ تهدينا حفنة من تراب الجنوب ننثره فى عيوننا بانفصال الجنوب، وقادة الانقاذ لا يتخدون أسباب منعة الوطن وعزته بل يستبعدون انفصال أى جزء آخر من الوطن، دون أن يعززوا اعتقادهم هذا بأعمال تجعل الكل يعتقد أن الوطن ملك لنا جميعاً وليس ملكاً لحفنة من الناس مهما أوتوا من حكمة.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند.
فإذا نصر الله نبينا نوحا على قومه الذين كفروا بدعوته، فإن الإنقاذ بظلمها لمواطنيها أينما كانوا تجلب على نفسها سخط مواطنيها والناس، والنبي نوح عليه السلام وهو يتلقّى من قومه كل هذا الظلم والنكران لرسالته كان يجيبهم إجابة الحكيم الذي يعلم أن العاقبة للمتقين، وأن الدنيا مهما طال زمنها ذاهبة بأهلها، والويل لمن يعصي الخالق العظيم ويشاقّه، فإنه سبحانه - يمهل ولا يُهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِته. إنهم يسخرون، وسوف تُحسب عليه سخريّتُهم. ويهزأون ويُحسب عليهم هزءهم. ولكنهم حين تحق الحقيقة غارقون في لجة الماء في هذه الدنيا ولن ينجو منهم أحد، وسوف يكونون من أهل العذاب يوم القيامة خالدين فيه أبداً. فمن الذي يسخر من الآخر يا أولي الألباب ؟ «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ».
وجاء وقت الحسم، لقد بنى النبي نوح عليه السلام سفينة الإنقاذ، فمن يركبها؟ إنها أزواج الحيوانات، ليكون منها التكاثر مرة أخرى، والمؤمنون من أهله والمسلمون الذين وحّدوا الله تعالى، أما زوجته وبعض بنيه فمع الغارقين، لقد كفروا به مع من كفر، وليس هناك من وساطة ورحمة إلا لمن استجاب للدعوة المباركة. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة وهي قرة عينه وأقرب الناس إلى قلبه «يا فاطمةُ، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً» كان المؤمنون قلة، وأصحاب القلوب الشفافة وأهل الهدى أقل عدداً ولكنهم أقوى أثراً، فليست العبرة بكثرة العدد والعدة. إنها بالنوعية الرائدة الفريدة. ألم يقل الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم «وإن تُطِعْ أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله ؟»، وقد قال الحبيب المصطفى في الدلالة على القلة الواعية الرائدة في المجتمعات «الناس كإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة».
وحين استوى المؤمنون في السفينة دعا القائد الرباني دعاء الحفظ والصون «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»، فتدفقت المياه كأغزر ما تكون من الأرض، ونزل الماء كأقوى ما يكون نزوله من السماء، وبدأ الماء يرتفع بقوة غامراً الوديان والوهاد، لا يترك ثقباً في الأرض إلا دخله ولا كهفاً في جبل أو تل إلا غمره، يخطف الناس والحيوانات والأشجار، ويأخذها أخذاً عنيفاً، وكانت السفينة تسير بهم في موج كالجبال، يحفظهم سيد الكائنات ويسيّرهم بلطفه سبحانه، وما الأمن والأمان إلا بمعية الله «لا إله إلا هو» ومن كان مع الله كان الله معه. ومن اتكل عليه كفاه. وكان قلب الأب الرحيم يتابع أحد أولاده ممن تنكب سبيل الهدى وخاض في الضلالة، وهذا يحزن الأب كثيراً فهو يريد أن ينجو فلذة كبده فيكون مؤمناً، لقد انطلق ابنه بعيداً عنه على الرغم أنه ناداه قائلاً «يا بنيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين» والإيمان شرط الركوب في السفينة، هذا ما قرره الله تعالى وقضاه، والفتى يقوده الغرور إلى ارتقاء جبل يظن أنه يمنعه من الغرق، فمهما ارتفع الماء فلن يرتقي الجبلَ خُمُسَه أو ربعَه أو نصفه، هكذا اعتاد الناس إذا هاجمهم الماء، وسوف يعود عاجلاً أو آجلاً إلى الانحسار، فما لأبيه يصنع سفينة ويتعب نفسه الشهور في تركيبها ويتحمل هذا العناء كله؟! أفقد عقله يا ترى، لعله كذلك، ولعل الناس صادقون في وصف أبيه بما لا يليق برجل محترم، هكذا كان يقول في قرارة نفسه حين ردّ على نداء أبيه الرحيم يستعطفه أن يكون معه في الفلك. فكان ردّه عقوقاً ظاهراً وجحوداً متمكناً في نفسه، «سآوي إلى جبل يعصمني من الماء» فكان آخر ما سمعه من والده «لا عاصم من أمر الله إلا مَن رحِم» ففي هذا الموقف رحمة أو غضب، ثواب أو عقاب. ولا يعلم هذا إلا قلب المؤمن المتصل بالله «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» فما إن انتهى الأب من دعوته لابنه أن يكون معه حتى .. «وحال بينهما الوج، فكان من المغرقين» لم تنفعه القرابة ولا النسب. فهمَ هذا مصعبُ ابن عمير حين قال له أخوه أبو عزيز، وقد أسره أحد المسلمين في غزوة بدر: يا أخي وصِّ هذا المسلم بي. فقال مصعب للمسلم: اشدُدْ عليه يا أخي فإن له أماً غنية تفديه. فقال أبو عزيز له: أهذه وصاتك بي يا أخي ؟! قال له: صَهْ؛ إنه أخي من دونك.
انتهت العملية في أيام معدودة، ولا بد من العودة إلى الحياة الطبيعية: فبلعت الأرض ماءها بأمر الله واستعادت السماء ما أنزلته، فالإقلاع ارتفاع، ألا نقول: أقلعت الطائرة؟ نعم لقد استعادت السماء ماءها وعادت الأمور كما يريدها المولى كي تبدأ الحياة من جديد. وإذ بالسفينة ترسو في أعلى جبل الجودي لتكون عبرة للأجيال القادمة «ولقد تركناها آية، فهل من مُدّكر». نزل المؤمنون سادة على الأرض بمدد من الله وعون منه، وقد كان الكفار قبل الغرق يسرحون فيها ويمرحون وكأنهم السادة الباقون، ذهبوا كما ذهب أسلافهم من الطغاة، وكما سيذهب أمثالهم من طغاة العصور القادمة، ولكنْ «هل من مُدّكر» . وتصور معي الاستعلاء الحقيقي لرب السماء والأرض «وقيل بعداً للقوم الظالمين». أقالها سبحانه مقرراً أفول نجم الظلمة مهما طغوا وبغوا، أم قالها المؤمنون وهم ينزلون من السفينة، أم قالتها الملائكة.. بعداً للقوم الظالمين.
ولعل الأبوّة حين تتملّك صاحبها تخرجه أحياناً عن الصواب ولو كان معصوماً - أو تنسيه ما أمِر به قبل الصعود إلى السفينة، فيختلط عليه الأمر، فلقد نادى نوح ربه مسائلاً: «ربّ إن ابني من أهلي»، ألم تقرر هذا حين سمحت لي أن أحمل أهلي في السفينة، وقد مضى ولدي فابتلعه الماء. يا رب إنك أرحم الراحمين فأحيِ ابني وأعده لي. أو لعله طلب ألا يكون ابنه من أهل النار. فكان الجواب عتاباً أعاده إلى الصواب وذكره بقاعدة ما تزال هي القانون الأبدي إلى قيام الساعة. لا علاقة للنسب في العقيدة، ولا صلة حقيقية إلا في العلاقة الإيمانية، وما عدا ذلك لا يُعتَدّ به، ولو كان من ذريتك. «إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح» وقد عاش نوح عليه السلام ألف سنة في أجواء الإيمان الحق، فلا ينبغي أن يقع في مثل هذا الخطأ «إني أعظك أن تكون من الجاهلين»
وسرعان ما يفيء النبي الكريم إلى الحق ويقر بخطئه ويسأل الله تعالى العفو والمغفرة، وهذا دأب القدوة الصالحة ترجع إلى الحق سريعاً. «قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ» فكان الاعتراف بالخطأ أولاً والتوبة ثانياً وطلب العفو والمغفرة ثالثاً سبيلَ الصالحين جعلنا الله منهم.
وينزل النبي الكريم ومن معه إلى الأرض بسلام من الله وتحية منه وبركات... إن من يؤوب إلى الله تعالى يجد غفران الذنوب وستر العيوب، والتجاوز عن الأخطاء ويجد المغفرة تحوطه والراحة الإيمانية تغمره.
فهل يعمل أهل الإنقاذ فى عهد جمهوريتهم الثانية على تأليف قلوب السودانيين جميعاً أو سوادهم الأعظم نحو حب ما تبقى من وطن، هل يهبهم الله عقولاً لإقامة علاقات طيبة مع إخواننا الذين انفصلوا عنا؟هل يهتمون بمعيشة المواطن البسيط؟ هل ينبذون العنف والإقصاء؟هل يوسعون هامش الحريات؟هل يشركون الآخرين معهم فى حل قضايا الوطن؟ بل هل يقبلون بصدر رحب وحسن نية بأن يركب الناس معهم سفينتهم ويرتقون ثقبها؟ نأمل ذلك
٭ كاتب وصحافي سوداني مقيم فى قطر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.