مصطفى السيد الخليل مزارع بمنطقة سمسم للزراعة الالية إن التغيرات الجيوسياسية التي تمت او ستتم مستقبلا بحوض النيل , والاختلاف الدائر حاليا بين دوله حول حصحصة المياه وما قد ينجم عنه , والتغيرات المناخية السائدة كلها وغيرها , هي اسباب كبيرة وقوية تحتم علينا نحن شعوب هذا الجزء من الحوض العمل بجدية , ووفق نهج علمي مدروس ومتفق عليه لتخفيف الاثار السالبة لهذه الاسباب على شعوبنا واجيالها القادمة والاستفادة قدر الامكان من الميزات النسبية المتاحة لنا وتعظيمها . ان اعطاء المزيد من الاهتمام للقطاع الزراعي المطري الالي يجب أن لا يبقى حبيساً للترف الفكري والمزايدة السياسية بل يتعدى هذا لرحاب أوسع ليصبح هماً عاماً وعملاً وطنياً من الدرجة الأولى. بهذا المفهوم وداخل إطاره أضع مقالي هذا . لعل التعريف السائد لمفردة "المشكلة" هي انها الموضوع "المحوري" الذي له اسباب وتترتب عليه" نتائج" و"اثار". فقهاء الادارة اجمعوا على انه وفي اي مجال اداري هنالك دائما عدة مشاكل من بين هذه المشاكل توجد مشكلة واحدة فقط تعزى لها جل النتائج والاثار السالبة على المجال المعني . بموجبه يرى بعض الحادبين على القطاع المطري انه يستوجب على الادارة القائمة العمل على تسمية هذه المشكلة وتحليلها ووضع الخطط اللازمة لمخاطبة اسبابها توطئة لتجاوزها تماما او تقليصها لاقل حجم ممكن. هذه الرؤية ترقى لمستوى الفرض الاداري عندما تكون الموارد والجهود المتاحة لهذه الادارة شحيحة ومبعثرة . لقد وضح جليا ان العمل على معالجة اي من النتائج على اساس انها المشكلة المحورية لا يؤدي فقط الى الطريق المسدود والاخفاق التام وانما قد يفجر مشكلة عنقودية اخرى تعمل على تفاقم ذات الوضع المتردي اصلا. انه يبدو كمحاولة علاج مشكلة تدهور البيئة الصحية بالافراط في اعطاء حبوب بنادول لمريض ملاريا يشكو من الصداع . ينسحب هذا على كل الاعراض للمجال المعني في حالة الخطأ في تحديد الهوية التحليلية ,مما يتتطلب قدرا كبيرا من الحذر والتاني والدقة عند التحليل تفاديا للعواقب الوخيمة التي قد تنتج عن هذا الخطا الذي يبدو بسيطا . في هذا السياق فان( تدني الانتاجية) والذي هو احد اهم الاعراض التحليلية الكثيرة للقطاع المطري الالي لا يعدو في نظر الكثيرين الا ان يكون( نتيجة) لمشكلة محورية تائهة تنتظر العمل للعثور عليها وتعريفها وتحديدها وتحليلها . انه من المؤكد ان المخاطبة الادارية لتدني الانتاجية بقناع المشكلة المحورية لن يكون له نصيب الاسد في محو الاثار والنتائج السالبة بالقطاع هذا ان لم يخلق مشاكل اخرى تؤدي به . لتاخذ ولاية القضارف مثالا بالتركيز على المحصول الرئيسي وهو الذرة . الخط المرجعي الراهن يشير الى متوسط انتاج( 2.5 ) جوال للفدان ومساحة حوالي 5 مليون فدان . دعنا نضاعف هذه الانتاجية بنسبة 100 % لتصبح 5جوال/للفدان وتخفيض المساحة المزروعة 100% لتصبح 2.5 مليون فدان لنصل الى انتاجية تبلغ حوالي 12.5 مليون جوال او حوالي 1 مليون طن من الذرة بقيمة 200 مليون دولار باحسن الفروض( فوب بورتسودان) وهي للاسف مبلغ لا يزيد عن القيمة الحالية لاحد نجوم الكرة الاوروبية حتى بدون خصم التكلفة . من المعروف ان تكلفة الحصاد تعادل حوالي 70% من التكلفة الكلية شاملة الزكاة وهي تحسب على الجوال بغض النظر عن حجم الانتاج وان تكلفة الزراعة تعادل حوالي 30% . تحت ظل هذه الانتاجية المتوقعة ونحن لم نجب بعد على هذا السؤال القائم و الهام: لماذا وماذا وكم وكيف نزرع ؟ بربك ماذا ستكون تكلفة الحصاد؟ . السيناريوالمتوقع هو ان تتضاعف تكلفة الحصاد لارتفاع قيمة الخيش والدبارة والعمالة او الالة والترحيل وغيره . هذا بالتاكيد سيبتلع كل العائد المتوقع من رفع الانتاجية اما السعر فللاسف سينزل الى درك سحيق لارتفاع العرض وقلة الطلب وسيتواصل عرض مسلسل (الحزانى) بابطاله من بعض الاثرياء الجدد وجيوشه من المعسرين ولا عزاء لاتحاد المزارعين . وستبقى مساحات كبيرة بدون حصاد حتى الموسم المقبل وسيضطر البعض للبيع الاجل وباسعار محزنة ولن يكون هنالك اقبالا كبيرا على الزراعة الموسم القادم الا لمن رحم ربي وأصبحت الزراعة له واحدة من العادات الضارة التي أدمنها وسيزداد الاعسار وستكون هنالك تكلفة اجتماعية عالية جدا وسينفرط عقد الامن الاجتماعي لان الفقر درج على التعبير عن نفسه باشكال عدة اخرها العنف . قد يقول قائل ان بقية المساحة ستترك لمحاصيل ذات عائد نقدي كبير واتفق مع اهمية التنويع وهذا المنحى الممتاز ولكن كل هذا يحتاج لاسناد ولعمل كبير جدا على كل المستويات . انتاجنا من السمسم مثلا لا يتعدى 40 الف طن صافية عائدها لا يتعدى( قيمة تامين النجمة جنيفر لوبيز لاردافها) . نعم تدني الانتاجية قضية كبيرة لكنها تبقى نتيجة لا اكثر ولا اقل وسيظل المزارع يتحدث عن تدني العائد وليس تدني الانتاجية لنضمن استمراريته في هذا المجال فمزارع القضارف على وجه التحديد بمواصفاته وقدراته المعرفية هو الاستثمار الحقيقي ويجب ان يبقى كذلك كما ان على الولاية رفع عائد المنتوجات الزراعية بشقيها الى ما لا يقل عن 750 مليون دولار لتخرج مواطنيها من تحت مطرقة الفقر . في هذا الصدد كان لا بد من احترام محاولة وزارة الزراعة الولائية( للتغيير) وارجو ان لا يجعلوا من ملاحظاتي هذه محملاً ( للتعيير) . فالاحترام لا يجعل العمل عصي على بعض النقد او الملاحظات التي اجملها في الاسئلة التالية: 1- هل صرفت الوزارة النظر عن تقانة( الزراعة الصفرية) التي روجت لها وصرفت عليها وتبنت تقانة( الزراعة الحفرية) ولماذا؟ 2- القدرة = الشغل/الزمن ,فلو استعمل المزارع هذه الجرارات (75 حصان) لنقل هذه التقانات فسينتهي من ذلك في ديسمبر . كم هو الزمن المتاح للعمليات الزراعية بالمناطق المختلفة بالمعدلات العادية؟ وكم تبلغ القوة الساحبة لانجاز ذلك ؟ اعتقد اننا نحتاج لجرارات بقوة 300حصان فما فوق واذا كان ذلك كذلك فلماذا يتم تدريب هذا الشباب على هذه الاليات غير المناسبة مستقبلا . 3- الادارة هي( فن اعطاء قيمة للمال) الم يكن من الاجدى اعادة استثمار المشروع الكندي كمركز للتجارب التطبيقية و البحوث ونقل التقانة وتطوير الاليات الزراعية والتدريب وباقل تكلفة ؟ . 4- نقل التقانة يتطلب اولا توفير عمالة ماهرة وهي نادرة تماما الان . الم يكن من الافضل تخصيص جزء من المال المتاح لتوفيرها وذلك بفتح مدرسة حرفية بالتعاون بين الزراعة الالية والجامعة ,ادارةالمرور, والبحوث و معلمي المنطقة الصناعية لتدريب حوالي 1000 من الفاقد التربوي وغيرهم واعطائهم شهادات ورخص لقيادة الاليات الزراعية تمهيدا لنقلة كبيرة في الموسم القادم , الا تدرك الوزارة ان هنالك شح كبير في هذا المجال وانهم يتقاضون مرتبات عالية جدا اكثر اغراء من تعدين الذهب 5- الا تدري الوزارة لم يتمنى بعض المزارعيين ان يكون الموسم دائما (ابرقا) ؟ المشكلة التائهة (كما اراها) : الزراعة كنشاط اقتصادي وبطبيعتها هي المرتع الخصب والمعروف لوحوش وكواسر الاخطار والتقلبات . اما شقها المطري الالي فهو المرتع الاكثر تفضيلا لهذه الوحوش حيث نراها اناخت ورتعت وتكاثرت ثم افترست. للقطاع المطري الالي شهداؤه الذين افترستهم هذه الوحوش دون رحمة . اين وحشية الاسد من (غلبة الدين) و(قهر الرجال ) بل اين مرارة (العلقم) من مرارة من فقعت مرارته وهو يستجدي بيع محصوله ممضيا ليله في صراط المخزون الاستراتيجي او من ذاك الذي باع ربعه وما بات في سربه . هذا القطاع يمد لسانه ساخرا من مقولة (من كد وجد) فقد تكد ولا تجد وتجد ولا تكد , اي لا علاقة ثابته بين المدخل والمنتج كما في القطاع الصناعي فهنا 1 مدخل -- -- 8ناتج او 10 مدخل ----- صفر ناتج لا لشئ الا لان القطاع تتحكم فيه عوامل بعضها خارج نطاق السيطرة البشرية كالامطار مثلا وبعضها يمكن السيطرة عليه جزئيا كالافات الحشائشية والحشرية . استنادا لذلك فاني اعتقد ان ارتفاع معدلات المخاطرة والتقلبات هي المشكلة المحورية لهذا القطاع والتي يمكن وضعها في تخطيط او حوسبتها في برنامج . للمشكلة مجموعة اسباب تتقاطع فيما بعضها : مجموعة الاسباب (أ) تشمل المكون الوراثي للمحاصيل , العوامل البيئية , عوامل الادارة المحلية للمشاريع , عوامل الاليات , العمالة , عوامل العمليات الفلاحية , اما مجموعة الاسباب (ب) فتشمل عوامل السياسات العامة للدولة, عوامل سياسية, عوامل التسويق , عوامل التمويل , عوامل خارجية واخرى . هذه الاسباب وغيرها تؤدي الى رفع معدلات المخاطرة والتقلبات في هذا القطاع الى درجات عالية جدا يصعب معها الاستمرار في الانتاج والتطور ولاحداث اختراق حقيقي ووضع نقطة انطلاق لافاق ارحب كان لا بد من التخطيط والعمل الجاد لتقليص هذه المشكلة للحد الاقتصادي الممكن . ولدت هذه المشكلة الكثير من النتائج : كهروب قدامى المستثمرين ( شركة الظفرة والعربية وغيرهم) , ندرة اقبال مستثمرين جدد , ضعف تبني التقانات , تدني الانتاجية , تدني العائد , الاعسار , تخلي الكثير من المزارعين المتمرسين عن اراضيهم بيعا او ايجارا او تركها بورا وغيرها . كل هذه النتائج تؤدي لاثار من اهمها الدخول في الدائرة الخبيثة للفقر والتدهور الايكولوجي (البيئي) والتهميش الجغرافي والاقتصادي والاحساس بالمرارات التي تدفع الى تبني العنف مما يقود للاخلال بالامن الشخصي . ختاما ارجو ان اطرح بعض المعالجات( كما اراها) املا في ان تجد من يتبناها : 1- حل النهضة الزراعية بغض النظر عن صلاحياتها وتفويض اداء دورها لوزارات الزراعة الاتحادية والولائية وغيرها من الجهات التنفيذية ذات الصلة . 2- اعادة صياغة امر تاسيس البنك الزراعي السوداني وتحديد دوره على تركيز وتثبيت اسعار محاصيل الغذاء الرئيسي"staple food" (ذرة –دخن – قمح ) وتوفيرها مع التمويل الحصري لصغار المزارعيين والمنتجين عينا ونقدا وبضمانات ميسرة . 3- الغاء برنامج المخزون الاستراتيجي “strategic stock" وتحويل امكاناته للبنك الزراعي السوداني للعمل على بناء مخزون توازني “balance stock" لمحاصيل الغذاء الرئيس لتوفيرها وتقليل تذبذب اسعارها"price fluctuation" . 4- اعادة السنة المالية “fiscal year" لسابق عهدها المبني على مسار الموسم الزراعي 1 يوليو ------ 30 يونيو . 5- اجراء مسح حصري وتحليلي شامل لكل الاراضي المطرية وبانواعها المختلفة ومن ثم وضع برنامج ضخم شامل ومتكامل للتسميد , مع العمل على انشاء معامل مركزية وفرعية لفحص التربة والتسميد بحواضر الولايات والمحليات والوحدات الادارية ورفدها بالكوادر الفنية والمعدات المتطورة والاسمدة بانواعها المختلفة . 6- وضع خطة مدروسة للنهوض بالقطاع المطري ضمن خطة شاملة ومتكاملة للتنمية الريفية مبنية على نظرية (تجميع القرى) “Ujamaa" وتكليف اتيام متكاملة من كل التخصصات العلمية والادبية لانفاذها . 7- تشجيع وتمويل المزيد من محاولات تنويع التركيبة المحصولية : (أ) برنامج بستنة جزئية خلال موسم الامطار وربط ذلك بمشاريع بسيطة للتصنيع الزراعي والصادر كانتاج معجون الطماطم او مادة الاثانول من البطيخ . (ب) ادخال محاصيل اخرى لا تكون (الثمرة) هي الجزء الاقتصادي منها كالكناف والعنكوليب واللوبيات العلفية . (ج) زراعة محصول ارز المناطق المرتفعة “up land rice" او حتى المغمورة بالمناطق التي تغمرها الامطار عادة . الارز يزرع بايطاليا فهل نحن نتحدث عن انتاج طاقة ذرية ( د ) إدخال الحيوان بصورة مدروسة ومدعومة وثابتة بالمشاريع المطرية . 8- التوسع في حفر الابار الجوفية والسدود بالمشاريع بدعم مباشر وتمويل ميسر . 9- التوسع المدروس في استغلال المخلفات الزراعية ودعم وتمويل اي مشاريع بهذا المجال . 10- التركيز وبشدة على نشر الميكنة الزراعية ولكل العمليات من خلال دعم انشاء شركات خاصة لبيع الخدمات الالية وبجرارات كبيرة 300 حصان فما فوق. 11- انشاء صندوق مؤقت لدرء المخاطر لحين تقييم وتقويم التامين الزراعي للتكلفة الجاري الان توطئة لادخال التامين الزراعي الشامل . 12- توقيع بروتكول للعمالة الزراعية الموسمية مع الاقاليم الاثيوبية المجاورة . 13- طرح معالجات مسبقة وجادة ودائمة لمعالجة الصراعات القائمة او التي ستقوم من جراء الصراع على الموارد الطبيعية المتاحة والمحدودة . ختاماً فإنني لست على يقين من أن الروائي العالمي جورج أورويل كان قد قرأ طالع بعض الشعوب الأفريقية وهو يكتب رائعته ( مزرعة الحيوانات ) لكنني وانا أردد المقولتين الشهيرتين ( أعطي العيش لخبازو ولو يأكل نصو ) و ( إصطياد عصفورين بحجر واحد ) أبقى دائماً بكل اليقين على أن واقعنا قد وصل حداً لا يقبل معه إدمان تطبيق مفهوم هاتين المقولتين ، إذ لم يبقى لنا من العيش إلا النصف فقد ذهب الخباز الاول بنصفه الآخر أما العصفورين فيكفينا منها عصفور واحد ننجح في إصطياده ولو بحجرين إثنين أو أكثر هذا إذا بقي بطرفنا حجارة ولم يطر بعد هذا العصفور . أخيراًً وليس آخراً فإنهم يقولون أنك قد تستطيع أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت أو كل الوقت لكنك لن تستطيع ابداً خداع كل الناس كل الوقت ، فلنحترم هؤلاء الناس وهذا الوقت حتى نستحق العيش بسلام في هذا الوطن العظيم والذي يجب أن يظل عظيماً .