كنا في مقال سابق قد وقفنا عند الخيال الموسيقي،والطاقة التعبيرية اللحنية عند عبد الحميد يوسف،وقدرته الإبداعية الباهرة،التي أسهمت في تحقيق تلك النقلة الفارهة للتاريخ الموسيقي السوداني إلى أفق الغناء الحديث.وكان مقدراً لذلك أن يحثنا على التأمل في بعض من سيرة عبقرية أخرى،يصعب الدوران للإحاطة بمدارها الهائل.حيث يشمخ الأستاذ محمد وردي كواحد من أهم أقطاب الغاء السوداني، وكصانع تحولات إبداعية كبيرة وجسورة،أخذت موضعها المتسع الوثير في وعينا ووجداننا الجمعي. فقد كان لبكارة الموهبة واكتناز المخيلة وخضرة الذاكرة ورواء الملكة الجمالية،بالاضافة لحس المسئولية والإلتزام،والدربة والحرص على التجويدالفني كذلك دور ملموس في التأسيس لأسطورة الشاب اليافع ،القادم من الريف ليأخذ موقعه المستحق بين الكبار ،قبل أن ينخرط في تشييد معمار موسيقي مُحكم فارع ،بلمسة أسلوبية أصيلة،يفسر به بعض من دلالة المأثور الشعبي عن ذلك الحواري الذي ما يلبث أن يبز شيوخه.وذلك عبر مران التجريب والتجديد والإبتكار،والتمدد غير الحذر لمجاوزة السقوف التقليدية الخفيضة،والمثابرة المدهشة على إبداع منجز موسيقي يتراكم لينحت مجراه العريض في دلتا التاريخ الموسيقي والغنائي السوداني. ليكون نتاج كل تلك الروافد الجمالية رصيد غنائي مختلف،يأتي في جله كتعبير عن حساسية فنية متبصرة،تعرف كيف تتماس بإلفة مع حس الناس وواقعهم وحراكهم المجتمعي،وصلاً للفن بأوردة الحياة وأبجدة للفكرة بالنغمة،وتوثيقاً للتاريخ الإجتماعي.ليتجوهر بذلك الفعل الفني الأصيل عبر دفق إبداعي بطبقات عاطفية ونفسية،وحمولات وجدانية لا تخلو من ومض الإلماعات الفكرية. ولهذا فعندما يكون الحديث عن تجربة الأستاذ وردي،فأننا لا نقف عند حدود ذلك الرصيد الغنائي الضخم،ولكننا نذهب بالأحرى لتتحدث عن تفكير موسيقي وفلسفة جمالية وخبرات فنية،وأسلوبية أصيلة،إستطاعت أن تؤسس لمدرسة موسيقية راسخة العماد وطيدة الأركان.يكفي أن نحدق في بعض من فسيفساء زخرفها النسيق،لنرى كيف تصبح مقاطع الغناء وجمله اللحنية ببعدها الإنساني ،حواملاً للحس والأفكار،واستبطاناً لتجليات الحياة،ورصداً لتفاصيل اليومي المغيب،ولحراك الناس المتململ،ولأرواحهم المتماورة ولذاكرتهم العريضة،وأحلامهم المغدورة.يندس كل ذلك في عصب الكلمة،وفي نسيج اللحن واهتزازات اليافه الشفافة. ولعل بعض نماذج من ذلك قد تعين على محاولة القبض على سر التنوع في ذلك الفهرس الحاشد،والمتن البانورامي الملون،المتعدد النكهات،والذي يفصح عن إنفتاحه على التجريب،واستئناسه بالرصيد الكوني،وانتصاره للمشترك الإنساني ،والثقافات المختلفة محلياً وأقليمياً وعالمياً.وانخراطه المخلص في محاورة الوجود بأبجدية الموسيقى وبوشائج النغم والإيقاع.لتخلد المقدمات الموسيقية الوردية ،كمحاضرات إبداعية عظيمة العذوبة والرصانة،كما هو الحال في "جميلة ومستحيلة" و "وردة صبية" و"الحبيب العائد" وغيرها. فلا غرابة اذاً أن يأتي إيقاع "دوري يا أيام" منحدراً من قلب غانا،أو أن ينطق جيتار صلاح خليل بفصاحة مبينة في "بناديها"،أو أن يرتعش الكمان متهدجاً باكياً في "لو بهمسة"،أو أن تأتي آلة التيزا الصينية على فاه المبدع وحيد جعفر بأجواء السحر الشرقي المطلسم في " يا ناسينا"،وأن يختض الطبل رازماً معتداً بزنوجته في "يا بلدي يا حبوب"،قبل أن يذوب اللحن مستعطراً برحيق التراث النوبي.ولا ننسى الطمبور الذي يحضر بكامل عذوبته وخصوصيته في "الود" بجوقتها الموسيقية المهيبة. يتدامج كل ذلك كيفما أراد مبدعه في تأليف موسيقي درامي الأبعاد، بقدرات هائلة على الاستغراق في النص الشعري،واستقطار المعانى،ومن ثم ملاقحة الدلالة باللحن وهيكله الإيقاعي.لينتج ذلك الحوار الإبداعي لوحات غنائية تأتي كمعادل دلالي ووجداني ونفسي،بل وكارتسام سمعي ملون للكلمة الشاعرة.والأمثلة على ذلك متعددة بحيث يصعب تضمينها في هذا الحيز المحدود.فلنكتفي اذاً بإلاشارة للتخليق الموسيقي التصويري البديع في كوبليهات "جميلة ومستحيلة"، بتنوع اللحن وتجدد نواة الإيقاع في كل مقطع.حتى يكاد السامع أن يمس أركان المشهدية الحية ووردي يصدح "من ضواحي الدنيا جيت وعلي رحالي..لمداين في عيونك يا محالي ..ريحيني أستري حالي". ولا يقل ذلك عن نصاعة الأسى النبيل،الذي ترسم ملامحه الترجمة اللحنية بالغة الرهافة في "الحزن القديم".وإفشاء جو الرهبة الذي يليق ب"وآسفاي"وطاقتها الحزينة.أو كما هو الحال في الغناء العاطفي،حيث أرخبيلات العطور والبهار والمشاجنات،لتتخاصر الموتيفات اللحنية الطروبة والإيقاع الراقص في "وسط الدايرة"، والتي تمت صياغتها إبداعياً كدعوة للرقص والتفاعل التعبيري بالجسد.وهناك أيضاً الطاقة الإنشادية الصادحة،والإنحناءات الإيقاعية والإنهمارات اللحنية،ذات الحمولة التأثيرية المضاعفة في حقول الأكتوبريات الشاسعة،التي يعرف فلاحها الهمام كيف يستنهض بذورها ،لتضرب بجذرها في طي طبقات الأرض،قبل أن تمد فرعها لصدر السماء. وكما أن كل ذلك يجتمع ليشكل ميراثاً سخياً،وثروة قومية تليدة،وتاريخاً فنياً فارعاً،وسيرة إبداعية باذخة،فأنه يمثل أيضاً درساً تاريخياً أضاع سانحة تدبره الكثير من المغنين الطفيليين،الطارئيين كما الغبار على فضاء المشهد الإبداعي.من اولئك الذين تعتاش نجوميتهم الكاذبة في مآلاتها البئيسة على الفتات،ومحاولات الإستنساخ الهزيلة التي أوغلت إمعاناً في الاستخفاف بعقل المتلقي وذائقته،إلى حد لا يستكنف تلويث الأسماع وتكدير الأرواح والتنكيل بالحس والحواس.ودونهم جيل من المبدعين يتمدد سحرهم ترفاً،كما النيل على صدر الأفق،عصياً على التجفيف والتجريف،خالداً كما الأزل.