لمنع انهيار الدولة.. فصائل سودانية: تركنا الحياد واصطففنا مع الجيش    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    نائب وزير الخارجية الروسي من بورتسودان: مجلس السيادة يمثل الشعب السوداني وجمهورية السودان    صحة الخرطوم توفر أجهزة جديدة للمستشفيات والمراكز الصحية واحتياجات القومسيون الطبي    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الترابي: عندما تنكسرعصا المايسترو/مصطفى عبد العزيز البطل


غرباً باتجاه الشرق
[email protected]
(1)
من أرقى وأعظم الفضائل التي تجتمع عليهما الثقافتان الإفريقية والعربية توقير - بل وتقديس - كبار السن، واحترام تجاربهم الخصيبة الممتدة في الحياة وإحلالهم محل القيادة والزعامة الحسيّة والمعنوية. تجد هؤلاء دوماً بين قبائلهم وعشائرهم ومجتمعاتهم مكان القلب والرئتين، فهم أولو الأحلام والنُهى وعند مضاربهم فصل الخطاب. السن المتقدمة في الثقافات الأصيلة صنوٌ للحكمة، ومستودع للعقل الراجح والفؤاد الذكي والقيَم المثمرة. وقد روى الطبراني عن أبي أمامة عن رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم: (ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة، وذو العلم، وإمامٌ مقسط). وفي الحكمة الشعبية على امتداد وادي النيل (اللي ما عندوش كبير، يشتريلو كبير)!
(2)
وكنت قد استُغضبت – قبل عامين أو نحو ذلك – فأخذتُ بناصية بعض السفهاء من أدعياء النضال، حين أخذوا يشغُبون في مساطب الشبكة الدولية على الإمام الصادق المهدي، وقد اتَّخذوا من بلوغه السبعين وتجاوزها مادةً للسخرية، ودعوا الإمام للتقاعد السياسي تحت طائلة كبر السن. فكتبتُ في شأن أصحاب التفكير الرغائبي هؤلاء ممن انتهى بهم العجز وقلة الحيلة الى تمني زوال اللاعبين السياسيين ذوي الفكر المغاير وانحسار ظلهم عن الساحة بيد عامل السن حتى تخلو لهم فيَبيضُون ويصفرون (خلا لكِ الجو فبيضي واصفري / ونقّري ما شئت أن تنقري). وفي الأثر عن إمام المتقين علي بن أبي طالب: "إياكم والأماني فإنها مركب الحمقى".
كتبت يومئذٍ: (من صور تعسف الأسباب واصطناعها للافتئات على المهدي الحديث المكرور عن سنِّه المتقدمة وطول بقائه على رأس حزبه العتيد، وهو ادّعاء لا صلة له في واقع الأمر بطول العمر وتقدمه، وإن اتَّخذ منه بعض قِصار الفعال مطيةً وذريعة لزحزحة الرجل عن موقعه بغرض تسريع أجندةٍ سياسية بديلة تقاصرت عنها قدراتهم. ومن عجب أن الثقافة الاجتماعية السودانية في صميمها تجعل من المجاهرة بمثل هذا الادِّعاء العبثي سلوكاً معيباً، إذ إنها تعظِّم ارتفاع السن وتجعله مناطاً للتبجيل والاحترام والمفاخرة، لا التبخيس والازدراء والمعايرة).
وعندي أن التوسل الى إزاحة الخصوم قسراً، وإجلائهم عن مسارح العمل الوطني جبراً، بتوظيف سلاح السن، مظهرٌ مستقبح من مظاهر ضعف الفحولة السياسية والافتقار الى الشرف الفكري، يعكس في جوهره عواراً بنيوياً وخواراً أخلاقياً يستغرق هذا الصنف من أدعياء النضال استغراقاً كاملاً، ويفضح إفلاس هؤلاء واستخذائهم أمام مشقّات المدافعة السياسية الحقيقية، التي تستلزم الهمم العالية والمثابرة ذات الكلفة، وهي استحقاقات لا مناص من الوفاء بها لمن أراد تغيير الواقع وتبديل ركائزه ودينامياته.
والذين عاشوا بين ظهراني الفرنجة ردحاً طويلاً من الزمان، مثل كاتب هذه الكلمات، يعرفون لزوماً أن ارتفاع السن في البيئات المتقدمة لا يعني شيئاً في حد ذاته، فالعبرة عند الغربيين بنمط الحياة اليومية وممارساتها المعتادة، فالذين يتبعون نمطاً معيناً من الحياة ويستهلكون الأغذية الصحيحة وينتظمون في أنشطةٍ حيويةٍ محددة ثبت علمياً أنها تعزّزُ وتستديم الصحة الجسدية والعقلية، هم أكثر الناس أهليةً للعطاء المستطرد، بصرف النظر عن عدد سنوات العمر. بينما تجد منهم من لم يبلغ الخمسين وما عاد يصلح لشيء بسبب من سوء اختياراته الحياتية، ولكن على من تُلقي مزاميرك يا داؤد؟!
(3)
لذلك كله تجدني – أعزك الله - أكثر الناس حرصاً على التزام الخطوط الحمراء في تقاليدنا العربية والإفريقية إجمالاً، والسودانية على وجه التخصيص، وأنا أتناول تصريحات الشيخ الدكتور حسن الترابي، رئيس حزب المؤتمر الشعبي، التي أدلى بها الأسبوع الماضي لكل من صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية وشبكة "الجزيرة نت" القطرية، في أعقاب انفضاض المؤتمر التداولي الذي عقد في الدوحة تحت عنوان: "الاسلاميون ونظم الحكم الديمقراطية: تجارب واتجاهات". وهأنذا أرد من فوري وأشجب بدوري كل ما وقعت عليه عيناي من تعليقات شاطحة مفارقة للخلق القويم والذوق السليم لحقت بتصريحات الشيخ، وزعمت عن الرجل أن نوره قد خبا، وأن عقله قد "خفَّ" بعد أن بلغ الثمانين، فلم يعد يميّز، ولم يعد يتذكر. كما أردُّ وأشجب الادعاءات التي عادت بنا القهقهرى عقدين من الزمان لتفتح ملفات كندا، وما أدراكم ما كندا، بعد أن كنا قد عبرناها وتركنا طحينها وعجينها من ورائنا ظهريا.
الترابي في ذاته، كان وما يزال، محل تقديرنا وتوقيرنا. ونحن نتطلع – بكل الحب - الى سماحة خلقه وسعة صدره إذ نلتمس منه أن يسمح لنا بمناقشة بعض ما أدلى به لصحيفة "الشرق الأوسط" وشبكة "الجزيرة نت".
(4)
لا ندَّخر وقتاً بعد ذلك فنسجد للحميد المجيد عرفاناً بفضله، كون أن شيخنا وجد في نفسه الشجاعة أخيراً فجاهر على الملأ، للمرة الأولى، باعترافه بالمشاركة والمسؤولية عن العشرية الأولى للإنقاذ. وهو أمرٌ ظل ينكره، ويثابر على إنكاره عبر الأيام والسنوات والحقب، منذ يونيو 1989م وحتى الأسبوع الماضي حين سجل اعترافه صوتاً وصورة في تصريحاته على هامش مؤتمر الدوحة، وكان قبلها يلقي باللائمة كلها على غيره من رجال سلطة الإنقاذ التنفيذية، ويستنكف أن يتحمل حبة خردل من مسؤولية، فيُنحيها ويردها عن نفسه رداً عنيفاً. تماماً كما ثابر تلاميذه وحواريوه على الإنكار واستعصموا به، ونظّروا له تنظيرا، بل وكادوا أن يصنعوا منه أيقونات يحملونها على صدورهم. والاعتراف والإقرار بالمشاركة، ثم عبء المسؤولية بالتالي، يتهادى في حنايا كثيرٍ من كلمات الشيخ المنثورة في الدوحة، ومنها قوله: (هما – أي الدكتور عبد الوهاب الأفندي والدكتور الطيب زين العابدين - لا يستطيعان انتقاد سنين الحكم الحالية ويكتفيان بنقد الفترة التي كنت مشاركاً فيها). والمشاركة تستدعي المسؤولية تلازماً وتراتبا. ومما قال الشيخ في شأن الإقرار بالمشاركة والمسؤولية: (فشلنا في أننا لم نطلق الحريات من اليوم الأول، ولم نعمل على توحيد الشعب، بالإضافة الى احتكار السلطة حتى على مستوى القرى والمدن الصغيرة). كما اعترف الشيخ – للمرة الأولى أيضاً - بممارسة القمع خلال سني العشرية الأولى: (سنتجنب خطايانا من القمع واحتكار السلطة... وسنعطي الحق للناس أن يتكلموا ويتحاوروا وينتقدوا ولو كانوا خصوماً لنا، حتى يعلم الناس الحق من الباطل والصواب من الخطأ، كما قال الله تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). ويخطر على بالي – هنا - سؤالٌ لا أكاد معه أن اقاوم إلحاح الرغبة في ان اتوجه به - ولو على استحياء - للشيخ الجليل: يا شيخنا، ألست حافظاً للقرآن؟ ألم يذكر لنا حواريوك أنك تحفظ القرآن على سبعة أحرف؟ فهل لم تكن الآية، رقم (251) من سورة البقرة (ولولا دفع الله الناس..)التي تكرس حق الإنسان الأزلي في الحرية والكرامة، والتي استظللت بها يوم حديث الدوحة، مصفوفةً في المصحف الشريف منذ أربعة عشر قرناً؟ هل غابت عنك فلم تقع عليها عيناك قبل الانقلاب، وبعده، وعلى مدى سنواتٍ عشر تلته، كنت فيها السيّد المطاع والحاكم بأمره، حتى اذا وقعت واقعة المفاصلة ذكرتها؟! أم أنك تتمثّل آيات القرآن على الهوى، تبعاً للحال والمآل، وبالتقسيط المريح؟!
(5)
الطامة الكبرى، أو المحنة التي احترنا معها وحار دليلنا، من تصريحات الشيخ، شكلتها حملته الجاسرة الكاسرة على اثنين من أتباعه وتلاميذه المنشقين عن قيادته والخالعين لبيعته، هما الدكتور عبد الوهاب الأفندي، والدكتور الطيب زين العابدين. وقد جاء هجوم الشيخ الترابي على خلفية مشاركات الشخصيتين الإسلامويتين والتي تضمنت نقداً لتجربة الشيخ ومحتويات الورقة التي شارك بها في المؤتمر، وهو ما ضاق به صدره فيما يبدو فأطلق لنفسه العنان بغير عقال، متنكباً جادة الحق ومجافياً حقائق ظلت شاخصة أمام الكافة ردحاً من الزمان، ووقائع مرصودة تكاد تنطق بلسان. من بين أقوال الشيخ الترابي التي تطير في وجه الحقائق والوقائع وصفه المتقدم للأستاذين عبد الوهاب والطيب بأنهما اكتفيا بتوجيه سهامهما الى العشرية الأولى من الإنقاذ، إبان وجوده في السلطة، ولكن أحدهما لم يجرؤ على انتقاد نظام الإنقاذ القائم حالياً. ثم تحديه لهما على رؤوس الأشهاد: (هما لا يستطيعان انتقاد سنين الحكم الحالية)!
ولا بد أن الدهشة قد أخذت بلبك وعقدت لسانك – أعزك الله – وأنت تطالع هذا التخليط المروِّع. ذلك أن كل من يقرأ ويسمع ويشاهد، لا بد أن يكون قد قرأ وسمع وشاهد هاتين الشخصيتين وهما تصبّان حِمماً من لهب وشواظاً من نار على رأس نظام الإنقاذ، بل وعلى رأس قائد دولتها، اسماً وذاتاً وعيناً، دون أن يطرف لهما جفن. وذلك من خلال كل وسيط مُشرَع من وسائط الإعلام، وكل منبر مبذول من منابر الفكر، محلياً وإقليمياً ودولياً. بل أنهما معاً ظلا يشكلان المدفعية الثقيلة، الأكثر فتكاً وهتكاً وفاعلية، التي ألحقت وظلت تلحق بمعسكر العصبة المنقذة الحاكمة أفدح الأضرار المعنوية والنفسية على مدى السنوات المنصرمة، كونهما من نسيج البيت الإسلاموي ونتاجه (بضاعتكم رُدَّتْ إليكم). والحال كذلك، وتصريحات الشيخ عن افتقار الرجلين للجرأة على نقد النظام ما تزال أوراقها مترعة بأحبار الورق، فقد تزاحمت التساؤلات في رؤوس الأحباب والأغراب عما اذا كانت ملكات الشيخ وقدراته على الرؤية المباشرة والرصد والمتابعة والإلمام بما حوله قد تضاءلت وأصابها الضمور. ولا غرو أن تعمّقت الشكوك وتكاثفت الشبهات أن الرجل ربما غابت عنه أحلامه وفقد بوصلته فأخذ يحتطب في براري السياسة السودانية فيخبط خبط عشواء، ويمشي في مناكبها بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير.
(6)
من منا، في أكثر خيالاته شطحاً، كان يتصور شيخ الحركة الإسلاموية بجلال قدره وسمو شأنه وقد انحدرت به المآلات والمقادير الى درك يشمّر فيه عن ساعديه، مثل صبيّ تميّز غيظاً من لداته فأنشأ يمزق أثوابهم ويحصبهم بالحصى والطين وروث البهائم، علّه ينال منهم فتيلا، ويشفِ غليلا. وهؤلاء ليسوا لداته، وليسوا نظرائه وأكفائه، بل هم تلاميذه وحواريوه، منهم من لزمه دهراً، فمحضه الولاء وعقد له البيعة وعاهده في المنشط والمكره. انظر اليه يعاير حوارييه ويهاترهم: (إن الدكتور عبد الوهاب الأفندي كان مستشاراً إعلامياً في السفارة السودانية بلندن، وكان الدكتور الطيب زين العابدين رئيساً لمجلس الشورى في تلك الفترة التي يهاجمونني فيها)! سبحان الله. ماذا دهاك يا شيخنا؟! هل كون الرجلين تكلفا مهاماً سياسية وتنفيذية في حقبة العشرية الأولى يعفيك، وأنت المرشد والقائد وقبطان السفينة، عن الأخطاء والخطايا والخطوب الفوادح التي ناء بها جسد الوطن المنهك؟ وأنت سيد العارفين أن حكومة السودان لم تكن تدار خلال العشرية الأولى من المكتب الإعلامي في لندن. بل لم تكن تدار حتى من القصر الجمهوري أو رئاسة مجلس الوزراء، وإنما من صالون قصرك المنيف في ضاحية المنشية، حيث تحلَّق تحت راية الشيخ رجال الدولة وقادة الحكم وأهل الحل والعقد، ففيم المراء؟ محل التقويم ومناط المحاسبة في مبتدأ الأمر ومنتهاه – كان وسيظل - هو التجربة السودانية ومرشدها الأعلى الذي نقل حلم الدولة الإسلاموية بليل من علياء النظرية الى مدارك التطبيق، لا موظفوها وعمالها ومحتسبوها وأصحاب التكاليف الدنيا في دواوينها. وليس من الشرف ولا الرجولة ولا الكرامة أن يتحامى القائد وراء الشاهد، وأن يجفل الرئيس فيتهم المرؤوس.
ومهما يكن من أمر فإن من طالع وتابع المشاركات الكتابية والشفاهية المقدمة أمام مؤتمر الإسلاميين والديمقراطية، يلحظ – أول ما يلحظ – أن الدكتورين الأفندي وزين العابدين قد كتبا وتحدثا فى طروحاتهما عن التجربة الإسلاموية السودانية، التي أثارت حفيظة الشيخ وأخرجته عن وقاره، كتبا وتحدثا بلغة الجمع، لا المفرد، عن مسؤولية كل الإسلاميين بغير استثناء تجاه الفشل والنتائج الكارثية التي انتهت اليها التجربة. وأنت هنا تقرأ عبارات واضحة المباني جلية المعاني من شاكلة: (أنه يجب علينا جميعاً مواجهة مسئولياتنا تجاه ما حدث). فلا غموض في التعابير ولا تلاعب بالألفاظ ولا هروب من المسؤولية.
(7)
وأحسب أننا نحتاج الى وقفة فاحصة ومتأملة أمام حديث الشيخ الذي عيّر فيه الدكتور الطيب زين العابدين بأنه كان رئيساً لمجلس شورى الحركة الإسلامية عند بزوغ فجر "الثورة المنقذة". ولو كنت في حذاء الدكتور الترابي وفي مكانه لما جرؤت على الإدلاء بتصريح كهذا، ولجعلت على أذنيّ أقفالها وتصنعت الانشغال بأمور أخرى في حال جاءت المعايرة من آخرين، أو جاء ذكر مجلس شورى الحركة ورئاسة الطيب لها بأي وجهٍ كان. وتلك تهمة ظلت تطال الدكتور زين العابدين عبر السنوات من تلقاء قيادات العصبة المنقذة، إذ يأخذ هؤلاء عليه أنه كان رئيساً لمجلس شورى الجبهة الإسلامية القومية الذي وافق على تفويض الشيخ الترابي لتنفيذ الإنقلاب العسكري في العام 1989م. لكأنهم يقولون للرجل من طرف خفي: أنت الذي هيأ المسرح وفتح الطريق أمام الانقلاب، فما بالك اليوم تشغُب علينا وتصدّع رؤوسنا تصديعا؟
والحقيقة التي هي في علم الكافة غداة يومنا هذا تنبُئنا بأن الدكتور الطيب زين العابدين كان في طليعة المعارضين للانقلاب، الرافضين لمسعى الاستيلاء على السلطة بالقوة الغاشمة المسلحة. عارضها قولاً واحداً، فكرةً، ونهجاً وخطة. وهو رأيٌ أسرَّ به الرجل عندما طُرح الأمر في الخفاء، ثم عالن به وجاهر، عندما أزف وقت المعالنة والمجاهرة في مجلس شورى الجبهة الإسلامية القومية. بيد أن الرجل التزم رأي الأغلبية كما هي أعراف الشورى والديمقراطية، فما الذي كان يرجوه الشيخ الترابي من الرجل حتي ينجو بنفسه من عار الإذعان لقرار الأغلبية المقهورة المسحورة، التي سحرها هو نفسه ومنّاها الأماني واستثار أشواقها لدولة الإسلام القادمة على أسنة الرماح؟ يذهب يا ترى الى السلطات ويبلغها بأن القوم قد ائتمروا على الانقلاب؟! ومن الحق أيضاً أن الدكتور الطيب زين العابدين كان عضواً بارزاً في مجلس شورى الحركة الإسلامية خلال السبعينات وبدايات الثمانينات، قبل أن تؤول اليه رئاستها بأخره، وكان واحداً من ثلاثة أعضاء عارضوا بثبات مضطرد خطة المصالحة الوطنية مع الرئيس السابق جعفر نميري ونظامه المايوي الغابر حين بسط أمرها للشورى، غير أنه انصاع أيضاً لحكمها فأذعن لرأي الأغلبية.وهو موقف لا يمكن أن يحسده عليه أحد.
أصحاب الذكاء المتوسط - بل والمتدني - لن يعييهم أن يتوصلوا الى حقائق بدهية مثل أن التلفع بثوب مجلس الشورى والاحتجاج بموافقته وتصويته لصالح الانقلاب لا يعني بالضرورة ولا يستتبع منطقاً أن هذ المجلس يوافق على الممارسات التي تلته ويتبناها. الموافقة على البرنامج النظري وتصوراته شيء، والمسؤولية عن التطبيق العملي وتجاوزاته شيء آخر. وحين يقول بمثل هذا التخليط خبير في الأنظمة السياسية والقوانين الدستورية فلا بد للعجب أن يبلغ بنا كل مبلغ!
قلنا إننا لو كنا في مكان الدكتور حسن الترابي لكان ديدننا، حين تُطرق القضايا العامة، تحاشي كل حديث عن مجلس شورى الحركة الإسلامية، تصريحاً أو تلميحاً. ذلك أن أية إشارة الى ذلك المجلس ودوره يستتبع ويستولد على الفور سلسلة من التساؤلات والاستنتاجات غير السارة: لماذا قام الترابي بحل المجلس أصلاً؟ ولماذا عمد الى تصفية الحركة الإسلامية بكاملها بعد ذلك؟ ولماذا سعى الى تهميش أصحاب الرأي المستقل من شاكلة الدكتور الطيب زين العابدين؟! ثم نصّب من نفسه مرشداً للنظام يمسك بخيوطه ويحركها بيدٍ مفردة من قصر المنشية، يشكل حكوماته فيعزل ويكلّف، ويعز ويذل، حتى إذا دارت الدوائر وانتهت به الى غير ما يُحب انتحب واضطرب، ووزع الاتهامات من حوله بالمجان كما يوزع بابا نويل قطع الحلوى!
(8)
مما يثير حفيظة كثيرين – وفي صحبتهم كاتب هذه الكلمات – كثرة حديث الشيخ الترابي عن أزمة السودان في دارفور. وهو حديث استعاده وكرره، ثم ضمّنه سلسلة تصريحاته، المار ذكرها، و التي أدلى بها لشبكة الجزيرة نت وصحيفة الشرق الأوسط. من مثل ذلك قوله في ذم الطيب وعبد الوهاب وتقريعهما: (هؤلاء كانوا "إخواناً"، ولكنهم لم يقدروا على تناول قضايا حاضرة مثل انفصال الجنوب وما يحدث في دارفور التي تحولت الى حرب وفضائح دولية). وبصرف النظر عن بطلان الاتهام، فقد زدنا وأعدنا في أن الرجلين قاربا بالفعل كل تلك القضايا عبر السنوات الممتدة وقتلاها بحثاً، إلا أن غيرة الدكتور الترابي على دارفور وحماسته في إدانة النظام القائم وتحميله مسؤولية انفراط عقد النظام في ذلك الإقليم العزيز، الذي استحال أمره – بحسب كلماته – الى (حرب وفضائح دولية) يدعو بدوره الى وقفة ندعو فيها الشيخ الترابي لينتصب ولو لمرة واحدة أمام المرآة فيرى صورته ويواجه ضميره.
الدكتور الترابي يعلم تمام العلم – كما يعلم خاصته وحواريوه – أن دوره في خلق وإزكاء الأزمة الدارفورية لا يقل إشكالاً في حقيقة الأمر عن دور النظام القائم. فكلاهما الترابي وحزبه من ناحية، وحكومة الإنقاذ الراهنة من ناحية أخرى خلقا وتبنيا وغذّيا المليشيات المسلحة لتقاتل بالوكالة عن الفريقين، وهي مليشيات ارتكبت ما هو في علم الكافة من انتهاكات وفظائع يعجز عنها الوصف في حق أهل ذلك الإقليم، وفي حق شعب السودان بأسره.
الترابي وحزبه هما من جمع فلول الإسلامويين الدارفوريين، بقيادة "الدبّاب" الراحل الدكتور خليل إبراهيم، صاحب العصابة الحمراء الشهيرة التي يعرفها مجاهدو الدفاع الشعبي في التسعينات، وفارس المذابح الجهادية الدموية إبان سنوات "نشر الإسلام" في جنوبي السودان، عهد كان الشيخ الترابي يمسك دفة الحكم بيد، ويرفع راية الحرب المقدسة بالأخرى، فأنشأوا بعد المفاصلة "حركة العدل والمساواة" وحملوها على رقاب أهل السودان حملا. وهم من دبر لها الهيكل التنظيمي والدعم المادي والمعنوي والإمداد اللوجيستي والاتصالات الخارجية، حتى اشتد عودها واستقوى عمودها فأخذت تهاجم المدن والقرى والقوافل والبنوك والمقار الحكومية ومعسكرات الجيش والشرطة على نظام حرب العصابات. ولم يكن غرض الترابي وصحبه – علم الله – من وراء ذلك التدبير الآثم سوى تنفيس الغيظ وفش الغبينة، وتصفية حسابات البيت الإسلاموي، وقهر خصومهم في حكومة الإنقاذ، وخلق واقع جديد على الأرض يجبر البشير وعصبته على استدراك موقفهم المتحدي والعودة الي حظيرة الشيخ راغمين، ودفع استحقاقات الأمر الواقع عن يدٍ وهم صاغرون. وبقية السيناريو الذي دمّر دارفور تدميراً وحول السواد الأغلب من أبنائها الى شعب من اللاجئين كتابُ مفتوح، إذ لم يعدم الفريق الآخر الأفكار "الإسلاموية" الألمعية فأنشأ عصابات الجنجويد ونظمها وسلحها وأطلقها من وراء الجماعات المتمردة بغية تأديبها وكسر شوكتها. وهكذا اتسع الخرق على الراتق وانداحت المأساة التي شلّت العقول وأدمت القلوب.
وإذا أراد الترابي أن يتحدث اليوم عن الحرب في دارفور وعن (الفضائح الدولية)، وفق وصفه، فالأجدر به أن يعلم أن مأساة دارفور، التي أشعل هو جذوتها، أبعد مدىً وأكثر خطراً وأعظم هولاً من أن تصبح مادةً لمعايرة عبد الوهاب الأفندي وتقريع الطيب زين العابدين، بما كتبا ولم يكتبا، وما قالا ولم يقولا. ومؤتمر الإسلاميين والديمقراطية في الدوحة، لم يكن موضوعه ومناط اهتمامه – في الأساس - وهو يعرض الى حصاد الحكم الإسلاموي في السودان، ويناقش أمره في منبرٍ مفتوح، الشيء الذي أخرج كل هذا الهواء الساخن من صدر الشيخ، لم يكن هو دور الأفراد ومواقعهم ومواقفهم، ولا الانقلاب وخلفياته وملابساته، وإنما "التجربة"، تجربة الحكم الإسلاموي، في شمولها وتمام أمرها. وهي تجربة نزعم أنها شوهت صورة الإسلام ونفّرت عنه، وأساءت الى الإسلامويين وعرّتهم وكشفت سوءاتهم. وإنما كان ذلك - في المبتدأ والمنتهى - هو العامل الأساس الذي دعا الى عقد مؤتمراتٍ ومنتدياتٍ سياسية وفكرية متعددة للبحث في عواقب وصول الإسلامويين الى سُدد الحكم والسلطة.
(9)
الشيخ الدكتور حسن الترابي سيظل عندنا دائماً هو الشيخ الدكتور حسن الترابي. هو الذي أنبأتنا عنه الكتب: فارسٌ من فرسان أكتوبر 1964م وقادتها الأماجد. هو نفسه الذي كنا في زمنٍ مضى نسرع الخطى لنلحق بندواته ولياليه السياسية وأمسياته الفكرية فنراه وقد خلب الألباب وأسر القلوب، فهي بين يديه يقلبها تقليبا. هو ذاته الفقيه العالم والمفكر ذو العقل الباهر والسياسي الحصيف الذي انسحب ظله على سوح العمل السياسي الوطني عقوداً متطاولة. وهو عينه الذي أنشأ بإرادته الباترة وعزيمته الآسرة تنظيمات الحركة الإسلاموية المتعددة الأسماء، خلال نصف قرنٍ من عمر السودان، وأفرغ فيها وسعه، فكراً وتخطيطاً وقيادة، حتى دانت له مشارق السودان ومغاربه في يومٍ مقداره ثلاث وعشرون سنةً، نصب في صُبحه سُرادق المشروع الحضاري، وما لبث أن أحرقه في ضحاه، ثم جلس يتدفأ بناره حين جنَّ الليل.
الفارق بين حبيبنا الإمام الصادق المهدي وشيخنا الدكتور حسن الترابي، أن المهدي روَّض نفسه وأنشأها على حب الرياضة وركوب الخيل. وظل يعافر الخيل ويمارس الرياضة بشتى ضروبها منذ الصغر وحتى زمان الناس هذا. بينما أغفل الشيخ الترابي هذا المضمار تماماً واستخف به، وتفرغ للقراءة والكتابة، والتفكير الكثيف الذي يصيب خلايا المخ بالتعب والنصَب.
النتيجة هي ما نراه أمامنا من توهج الإمام وتوهان الشيخ!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.