ظلت الثقافة في مؤخرة اهتمامات الإسلاميين طوال سنوات حكم الإنقاذ.. وتراجع الأداء والفعل الثقافي والتنويري الى المقعد الأخير في قائمة طويلة من الهموم والقضايا العاجلة، حيث طغى الاهتمام بيوميات الحياة السياسية ومستجدات العمل الأمني والاقتصادي على معالم المشروع الثقافي، هذا إن لم يكن قد قضى عليها تماماً حتى أن العاملين داخل دولاب العمل التنفيذي في أجهزة الدولة بل وبعض المتنفذين في الحزب ينسون أو يتناسون أن مشروع التغيير الذي جاءت به الإنقاذ في الثلاثين من يونيو 1989م، كان مشروعاً سياسياً يقوم على أرضية فكرية واضحة القسمات، وإن غطى عليها هدير جنازير دبابات الانقلاب الذي اطاح بحكومة الصادق المهدي يومها!! وبعد كل سنوات الحكم هذه لا يكاد المنتمي العامل والملتزم بالمؤتمر الوطني كحزب، يستطيع ان يقدم موجزاً للمشروع الثقافي الذي يقوم عليه الحزب.. ليس لأن الحزب لا يملك هذه الرؤية، ولكن لطبيعة الحراك الذي دارت على وقعه يوميات الحزب طيلة سنوات اتسمت بتغليب الصوت السياسي الجاف وملاحقة مستجدات الراهن السياسي وتقلبات طقسه التي لم تستقر على حال!! إن غياب الصوت والملمح الثقافي ليس قصوراً في حزب المؤتمر الوطني وحده .. ولكنه سمة ملازمة لكل أحزابنا السياسية التي أفرغت العمل السياسي من هواء الثقافة الفكرية والنشاط الفني الذي يقدم البرنامج السياسي في طبق ابداعي، ويحول المبادرة السياسية لمشروع له لون وطعم ورائحة، مما يقلل من جفاف الصوت السياسي ويخفف من مباشرته وحدته!! وبسبب هذا القصور في اصطحاب العمل الثقافي ضمن منظومة متكاملة لبرنامج الحزب الحاكم أو المعارض صارت دور الأحزاب السياسية وأماناتها العامة خالية من المهتمين بهذا الشأن المهم والخطير.. حتي إذا ما حانت لحظة الحاجة للاستعانة بهم، تم ذلك بطريقة ترقيعية يغلب عليها التكويش الجماهيري وتبعيض المشاركة والقبول بمساهمة الفنان والمثقف عبر اجتهاده المتكرر أو تجربته الخاصة، والتي لا تعبر بالضرورة عن أفكار الحزب ولا تطلعاته ولكنها مقبولة كونها جاءت من مبدع ارتضى المشاركة في برنامج الحزب ونشاطه المعني، أما رغبة في المقابل المادي أو مجاملة لجماعة لا يرى غيرها مسيطراً ولا فاعلاً في ساحة العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وما العمل الثقافي إلا جزء من هذا الكل المتداخل !! هذه الحقائق المعلومة والملاحظات المؤلمة كانت حاضرة في وعي وذهن الاخوة الذين تقدموا بمشروع التظاهرة الثقافية والشبابية لحزب المؤتمر الوطني.. وقدموها لتكون حجراً يحرك بركة السكون في وسط طغى عليه صوت السياسة وخطابها الجامد.. قدموها لتكشف عن المعالم والأفكار والمشاريع الفكرية والثقافية التي يقوم عليها حزب المؤتمر الوطني باعتباره امتداداً لتاريخ طويل من العمل الثقافي المتصل، وكونه حزب يستمد منهجه ورسالته من الإسلام في سموه وشموله وتجدده وتشعبه في مناحي الحياة كافة يسوقها على هدى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).. وكان مؤملاً أن تكون بداية التظاهرة بحجم هذه الآمال والأشواق العريضة، لكنها وقعت منذ البداية في روتين الافتتاح السياسي ولم تستطع الخروج من جلباب وعمامة التوظيف السياسي للحدث.. كما إنها لم تكتسب منذ الوهلة الأولى قاعدة انطلاق تمكنها من عبور تحديات الراهن السياسي، فغابت بغياب الجانب الرسمي في الحزب خاصة وانشغاله بيوميات العمل السياسي وهواجس التغيير القادم في أوساط الوزراء والتنفيذين داخل الحزب والدولة، وهو ما يعني عملياً تراجع الهم الثقافي الى مكانه الطبيعي في قائمة الاهتمامات!! لهذا وغيره أدعوا الاخوة في أمانة الشباب بحزب المؤتمر الوطني لمراجعة مبادرتهم قبل أن تغرق في خريف الأحداث القادمة.. وليت أمانة الشيخ السني نفسها تخرج من دائرة الارهاق بتفاصيل العمل اليومي الى فضاء التفكير الهادئ للنظر في أمر مبادرة رائعة من حيث التنظير لكنها تواجه حالياً معضلة حقيقية في خطة التنفيذ وآلياتها!!