ü عشت في ولاية النيل الأبيض وترعرعت.. تنقلت كثيراً من الجزيرة أبا موطن الأهل والعشيرة والأسرة وتجولت في كل مدن الولاية ومحطاتها الكبيرة والصغيرة تقريباً.. وخلال سنوات الدراسة والعمل العام توفرت لي معرفة ودراية بكل تفاصيل الحياة هنا.. وعايشت عن قرب ومن بعد أدق أسرار وخفايا الصراعات والتحولات السياسية التي شهدتها الولاية خلال سنوات الإنقاذ والسنوات الأخيرة من أيام حكومة الصادق المهدي التي عايشنا حملاتها الانتخابية المؤيدة والمعارضة !! ü ومن مقعد ومجهر كرسي الصحافة توفرت لي دراية أكثر عمقاً بما يجري في هذه الولاية.. دراية سهلت لنا الكثير من المعالجات التي قدمناها لصناع القرار في المركز والولاية لمعالجة تعقيدات تأخذ طريقها لبريد الصحافة وسطورها.. لكننا كثيراً ما قلنا ونقول لمن يأتون ويذهبون بالتظلم إنه ليس كل ما يعرف يقال فهنالك قضايا يضر نشرها أكثر مما ينفع وليس من الحكمة في شيء رفع الصوت بقضية يمكن حلها بهدوء وبلا ضجيج إذا لم يكن فيها أمر يتعلق بمنفعة عامة تتأتى من خلال النشر والعرض الصحفي. ü وبسبب هذه المتابعة والملاحقة لقضايا الولاية والمعرفة الدقيقة بما يدور في داخلها والهوامش ذهبت أيام حكم المغفور له بإذن الله مولانا مجذوب يوسف بابكر تحت الأسر والرقابة المشددة من قبل سلطات الأمن والمخابرات في الولاية والتي ألقت القبض على شخصي الضعيف وقامت بترحيلي من غرفة الامتحان لمقررات ماجستير علوم الاتصال بجامعة الجزيرة بمقرها بالرياض إلى مدينة كوستي حيث قضيت يوم وليلة داخل حراسة قسم الشرطة هناك .. تم ذلك بعلم ومتابعة النافذين في الولاية يومذاك ومنهم وجوه أقابلها يومياً منذ قدومي للولاية وزيراً وتنتابني موجة من الضحك الصامت لأن منهم من يحدثني مستنكراً ماجرى في ذلك العام علماً بأنه كان من الذين خططوا ونفذوا تلك العملية الغريبة والخطيرة والتي سجلت سابقة قانونية كانت مدخلاً لمراجعات شاملة في ملاحقة الصحفيين الذين يحملون القيد الصحفي وترحيلهم للمحاسبة والتحري بالولايات .. ويسعدني أن أكون آخر صحفي تم إلقاء القبض عليه وترحيله إلى خارج الخرطوم في قضية نشر صحفي!! üلايدري المرء أين وكيف ترمي به المقادير في حياته.. ومن ذلك ما لم أكن أظنه أن يحدث في يوم من الأيام أن أذهب إلى ولاية النيل الأبيض وزيراً ضمن طاقم حكومتها.. سأسرد ذات يوم تفاصيل هذه التجربة التي أكملت اليوم عاماً كاملاً يستحق أن أسجل له خواطر في دفتري ضمن يومياتي التي ارتبطت بأيام وليالي لاتنسى!! .. لكن عاماً من المعايشة والمشاهدة لمشاكل وتفاصيل الحياة في ولاية النيل الأبيض خلال عام كامل يستحق بعض الإشارات العابرة ومنها أنني سعدت كثيراً بالتعرف أكثر وأكثر على حقيقة وطبيعة وأسباب المشاكل التي تعيشها وتواجهها ولاية النيل الأبيض في كافة المجالات .. وأتاحت لي فترة العام هذه فرصة للاقتراب أكثر من طبيعة التعقيدات التي تعيشها ولايتنا كغيرها من ولايات السودان التي عانت ولاتزال من تبعات تجربة الحكم الاتحادي بسلبياتها وإيجابياتها في التنمية وتقديم الخدمات للجماهير وارتباط كل ذلك بالمركز ارتباطاً لافكاك منه، الأمر الذي جعل تجربة الحكم الاتحادي مقيدة ومكبلة ومصفدة بسلاسل وحلقات مترابطة يصعب جداً التحرك أبعد من قطر الدائرة بين الخرطوم وعاصمة أي ولاية من ولايات السودان قبل وبعد الانفصال !! ü عايشت وشاهدت خلال هذه السنة من تجربة التواجد داخل الجهاز التنفيذي لحكومة ولاية النيل الأبيض المفارقة بين طموح الجماهير وإمكانيات وطاقات الحكومات الولائية التي تغرق دائماً في شبر موية الفصل الأول وتجهد نفسها لتفعل شيئاً لمواطنيها في بند التنمية والخدمات وتطلق من وقت لآخر جملة من البشريات والأفراح والمشاريع الطموحة في مجالات الصحة والتعليم والكهرباء والمياه، لكن سرعان ماتصطدم كل هذه الوعود بعقبات التمويل والتعسر والاعتذار والتأخير في التمويل والالتزام بالوعود المغلظة من وزارة المالية والجهات الداعمة والممولة من المركز وبضمانات خارجية تواجه هي الأخرى صعوبات بالغة في الوفاء بالتزامات لها مع الخرطوم لتكون المحصلة ضياع حلم الناس في الولايات بغدٍ أفضل وحلول سريعة لمشاكلهم وهمومهم لتدور الساقية من جديد!! ü عام من المعايشة والمشاهدة تعلمت خلالها الكثير عن كيفية اتخاذ وصناعة القرار داخل أجهزة الحكم.. وأضفت إلى تجربتي ومعرفتي في مجال الإدارة والقيادة تجربة نوعية لاتقدر بثمن ولا تحد بحدود.. ويكفيني فخراً أنني تعلمت الكثير من تجارب ومعارف إخواني في وزارة الثقافة والإعلام والسياحة بالولاية، وهي صفحة تستحق رسماً بمشاعر خاصة وألوان زاهية لن تسعها هذه المساحة حتماً!! ü وتجربة عام كامل من الحركة والمشاهدة داخل دولاب العمل التنفيذي أطلعت خلالها على واقع جديد ليوميات الصحافة والسياسة في بلادنا.. يوميات تتداخل وتتقارب، لكن ما اكتشفته حقاً أن الصحافة السودانية تحتاج لجهد مضاعف وخارق حتي تتمكن من ملاحقة الجهاز التنفيذي إن أرادت أن تكون شريكاً فاعلاً في المحاسبة والمراقبة .. هذا أو أن تبقى على الرصيف توثق الأحداث وتعلق على ظلال الأحداث دون أن تكون لديها القدرة على استشراف الحدث وصناعة الخبر !!