حزمت أمري وهيأت نفسي كأحد المشاركين في احتفال بمناسبة تخريج ابنتي في كلية الهندسة.. لملمت أحزاني وأحكمت إغلاقها، وأودعتها في مستودع مجهول، وقذفت بمفتاحها في بحر عميق، ثم توجهت إلى موقع الإحتفال. قاعة مكتظة بالبشر تختلف ألوان بشرتهم، متفاوتة أعمارهم، يتبادلون الحديث بالهمس وبالصوت العالي بمختلف اللهجات،أفهم بعضها وبدون شك أجهل معظمها، كثير من لهجات بلادي انزوت مع زحف المدنية وعدم حراستها من أهلها، التاريخ لا يرحم، انتبهوا يا عمات ويا خالات وياجدود وياجدات حافظوا على اللهجات. ازدانت القاعة ألقاً بحضور شخصيات ذائعة الصيت في مجتمع العاصمة، نرى صورهم تزدان بها صفحات الجرائد والفضائيات، في كل يوم يصنعون الأحداث ويسطرون بقراراتهم الجريئة مستقبل بلادي استقطعوا من وقتهم الغالي لحظات يقضونها مع فلذات أكبادهم.. طفل صغير عرفت أن اسمه (حسن ) يجري بين الناس، يحمل الفرح ويوزع الابتسامات، ويهوي أكل البسكويت، ويمضغة مع الضحكات، أسمع صوت أمه وهى تنبهه أن لايضحك وهو يأكل، لا ينتبه لحديثها فهو فرح بهذه البهرجة، وبتلك الموسيقي والأغاني الراقصة التي يرددها الشباب، الجميع جاءوا بلغة ولهجة وشعور واحد، اليوم حفل تخريج وبهجة ومسرة على ضفاف النيل، تبادلت الحديث مع الأستاذ التيجاني الذي ذكر أنه جاء من الكويت خصيصاً لمشاركة ابنته وأهله حفل تخريجها، كثيرون مثله عبروا المالح وتركوا أشغالهم وتعرضوا لوعثاء السفر وتبعاته للمشاركة ولتأكيد الانتماء للوطن، صاحب العادات والتقاليد والمشاعر المعطونة بعزة الاسلام وعزة السودان. الحضور في ترقب ليعلن المذيع الداخلي عن وصول موكب الخريجين، يقف الجميع احتراماً لصوت السلام الجمهوري، ويرددون معه بأصوات عالية، وعزيمة قوية، ومشاعر تجاوزت فضاء المكان، وتجاهلت عنصر الزمان، واختلط التاريخ ماضيه مع حاضره، تتحرك أجسادهم، وتهتز أياديهم، وتتعانق الحروف والكلمات الخالدات، نحن جند الله ... جند الوطن .... تعمل الكاميرات ويتسابق المصورون لأخذ مواقع متميزة، يلتقطون ليسجلوا هذه اللحظات التاريخية، والتي ارتبطت بالسلام الجمهوري، فاليوم استقلال وانعتاق وانطلاق إلى مستقبل مشرق، مليء بالأمل ومزدان بأمنيات ودعوات الحبوبات الصادقات.. ياالله !! كل هذا الفرح والترقب ويظهر علينا الموكب- وهو يرتدي السواد(أرواب) سوداء، قبعات سوداء... من عثر على مفتاح أحزاني، ومنح هؤلاء ملابس بلون الغراب.. من قال للأطباء ترتدون ملابس بيضاء وللقضاء ملابس سوداء، لماذا يرتدى المحكوم عليه بالإعدام ملابس حمراء، من وزع هذه الألوان؟ حتى ابنتى وصويحباتها وافقن وارتدين الأسود، رغم بياض وجوههن وقلوبهن، والفرحة المطلة بوضوح من عيونهن، ألم تكن هناك فرصة للإحتجاج وابداء الرأي، يا إلهي مرة أخرى عدت إلى احزاني، وانفصلت عن من حولي.. لماذا العلاقة تزداد قوة عند البعض وتربط اللون الأسود بالحزن، ألا يعلم الناس بطبيعة الدنيا كل الكهوف مظلمة، إلا كهف الجمعة فإنه يضئ بين الجمعتين. بدأت اللحظات الخالدة في أذهان الخريجين، حينما أعلن المذيع الداخلي عن بداية فقرة التخريج.. عاد الجميع إلي مواقعهم واستقرت الأجساد على كراسي الاحتفال، واصطف الخريجون والخريجات في مكان واحد ليتوالوا أولهم ثم ثانيهم .. يصحب كل واحد منهم لحن تميز به وأعجبه، واختاره بإرادته ليكون عنوانه ليقدمه للناس، شاهد الحضور، وسجلت الكاميرات، تدافع الأبناء وهم يلقون بإنفسهم تحت أقدام آبائهم يقبلونها شكراً وتقديراً، ثم ينتصبون واقفين ليهوون مرة ثانية في مذلة وقناعة ويقبلون أقدام أمهاتهم.. ويعاودون التقبيل للرؤوس التى منحتهم الحب والحنان، لحظات رهيبة امتزجت فيه دموع الفرح بين الآباء والأبناء عبرت بنا إلى مستقبل هذا البلد وهذه التربية، لم يتعالَ الأبناء وهم يحملون الشهادات الجامعية على آبائهم، وأكدوا ولاءهم لمن ضحوا من أجلهم ... أين أنت يا أبي حتى أقبل رأسك وقدميك؟ لقد كانت لأفراحنا معاني ونكهة، كنا نحب أشياء كثيرة من أجلك، برامجنا وأحاديثنا، حتى ملابسنا كنا نرتدي الذي يسرك ويشرح قلبك. فجأة طرق سمعي اسم ابنتي ( دعاء) من المذيع الداخلي لتتقدم الركب، وكان لزاماً عليّ أن أكون حضوراً في موقع مخصص لأهل وخاصة الخريج، فتقدمت مع المتقدمين، وكثير من المشاعر الخاصة تدور في رأسي، لقد اختار والدي اسم (دعاء) لها وهي البنت الوحيدة التي سماها من ضمن أبنائي الثلاثة، فاكتسبت منه عمق مشاعرها ودقتها.. كنا نحمل شهادات تخريجهم في مراحلهم المختلفة، إلى دارنا العامر بامتداد الدرجة الثالثة، ويستقبلنا والدي بكل الفرح، ويعبر عن فرحته بهدايا خاصة يرتب لها بكل سرية ليفاجئنا بها، يشعرنا بأننا قد حققنا تقدماً في الحياة، يخطط معنا للخطوة القادمة، ويذكرنا بشكر الله وأن النعم تدوم مع الشكر، هذه المرة ياوالدي لن نستطيع أن نذهب إلى البيت الكبير- لأننا بكل بساطة لن نجدك، لن تفتح لنا الباب كما عودتنا، لن نسمع كلمة (مبروك)، لن نستطيع أن نقبل رأسك ويديك، بل لم يعد (جوالنا) يظهر عليه رقمك ليسألنا أين وصلتم؟ ومالكم تأخرتم ؟ بدأت المقطوعة الموسيقية التي اختارتها بنتي لتعبر بها عن تاريخ اجدادي، أثارت في نفس المتلقى من الشجى والتعاطف مايعادل استمتاعه بقيمها الجمالية الفنية، لحن حلفاوي وايقاع نوبي تراقصت معه، وهي تعبر الممر الواصل الينا أنا ووالدتها التي سهرت معها الليالي من أجل هذه اللحظة. لم أكن أعلم يابنتي العزيزة أنك اخترتي هذا اللحن المعبر عن وجداننا، يضرب على وتر هموم الإنسانية وعذاباتها الأبدية،، لم أكن أعلم يابنتي الغالية أنك سوف تفجرين أحزاننا حين أعلن المذيع الداخلي أن الخريجة (دعاء) تهدي تخرجها إلى روح جدها الحاج صالح جابر.. يرحمك الله ياوالدي.. ستظل الأجيال من بعدك تدعو لك بالرحمة، وتهديك أغلى ماعندها، لأنك من جيل لن يتكرر.. لقد تجاوزت أحزاننا في تلك الليلة نطاق الخاصة منا إلى من حولنا، لأنه حزن يشع من قلوب البسطاء الغنية بالابداع وبحب الرسول صلى الله عليه وسلم، لفراق ولده إبراهيم (إن العين لتدمع وأن القلب ليحزن وإنا لفراقك لمحزونون).