ذات مرة عرَّض الكاتب محمد جمال باروت الروائي عبد الرحمن منيف إلى قدر كبير من الإحراج حين فاجأه برغبته في أن يسرد له منيف تجربته البعثية ليستضيء بها في مشروع كتابته عن التجاذبات القاسية التي نشأت بين القوميين العرب والبعثيين بعد الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة، أخبره منيف أن أكثر من صديق ألح عليه بالكتابة حول تلك التجربة لكنه ليس متحمساً لذلك أبداً، لأنها على حد تعبير منيف القاتم والقاطع (تاريخ وسخ)! اللافت في تجربة منيف الروائية الفنية الضخمة أنه تأخر في دخول عالم الرواية فهو قد أصدر روايته الأولى (الأشجار واغتيال مرزوق) في الأربعين من عمره، وكان أمضى مرحلة الشباب مناضلاً سياسياً وكاتب مقالات ورفيقاً بعثياً، لكن السياسة والإيديولوجيات لم تهيمناً على نزعته الروائية ولا على فنه السردي، فكان ماهراً في نسج عالمه وشخصياته وفي حبك الوقائع والدمج بين الوثائق التاريخية والتخيل الخلاق. كانت أبرز إنجازات منيف أنه انتقل بالرواية العربية إلى أفق جديد بتحرر كامل من سطوة الرواد المصريين لأنه انفتح على الحركة السياسية القومية في تواتراتها العنيفة وأمسك بالعصب الحساس في الحياة المعاصرة في تقديس الحرية وحقوق الإنسان. استخدم منيف في تحقيق مشروعه الباهر كل ما توافر له من تقنيات روائية وعناصر سردية فأتقن فن الرواية وحذق لعبة الضمائر والحوار الداخلي والتوازي والتقطيع الزمني والمشهدي، ولم يشأ أن يغالي في التجريب مثلما فعل بعض الروائيين الذين جايلوه وأصر على أن يكون أصيلاً في تجربته ومن يقرأ رواياته الكثيرة بدءاً من قصة حب مجوسية والنهايات مروراً بسباق المسافات الطويلة حتى خماسية مدن الملح في الكتابة واسترساله ورحابة أفقه. أما المؤشر الحاسم للنقلة النوعية في مسار الرواية العربية فتمثلها كل من الشرق المتوسط والآن هنا بالتأسيس لوعي جديد بحياة الخليج العربي واختار مشاريع النهضة واحباطاتها القاسية في تلك المناطق البكر. إن أعظم ما ميز منيف هو القدرة على صوغ إيديولوجية تحريرية خارج الأطر اليسارية التقليدية متناغمة مع المراحل الجديدة التي يشهدها العالم العربي، وقدرته الفذة في تحويل الفكرة لصيغة جمالية بالغة القوة والتأثير. أحب منيف المدن العربية وكانت كل رواياته فضاءات مفتوحة على تلك المدن، وانشغل بالإنسان العربي وأمسك بهمومه وأحلامه وخيباته فاستحق عن إنتاج أدبي مرموق أن يصبح إحدى الذرى السامقة في الإبداع الروائي العربي المتميز بالصدق والالتزام القومي والإتقان الفني. أنوه إلى سبع سنوات على رحيله وانقطاعه على سير المسافات الطويلة.