وها هي.. نسمات الخريف تسري.. وها هي السحب الركامية.. تحجب الشمس وحتى النجوم.. وها هي.. أنفاس الدعاش.. تملأ الأنوف والصدور.. والوابل من المطر ينتظر.. ورجال بحجم الصواري أسخي سحبه.. وتتعاقب في فرح.. العينات.. ونبدأ «بالنترة».. وهي ليست أكثر من فيض ينبع من سروف الجنة.. والمطر الذي بلل الأرض هو «الأزهري».. والسحابة تقول.. «مات الأزهري ومنزله مرهون وحين أراد في حياته أن يوسع منزله بعد أن صار قاعة اجتماعات واستقبال الوفود الداخلية والأجنبية، كتب إلى محمد البشير في ملكال طالباً سلفية «خمسمائة جنيه» متعهداً برد المبلغ من مرتبه في خلال سنة.. فقام تجار ملكال بتسليفه.. المبلغ وما زالت نسخة من خطاب الزعيم الأزهري ورد محمد البشير وأسماء التجار ورقم الشيك موجودة» وتأتي «العينة».. ووابل من المطر.. كان البيه عبدالله خليل.. الذي كانت داره مفتوحة يؤمها كل الناس وهو رئيس للوزراء.. للدرجة التي جعلت «جعفر» وصديقه «عزو الجزمجي» وأحد فتوات وشفوت أم درمان يزورونه وعندما لم يجدوا عشاء بعد ليلة صاخبة اقترح «عزو» أن يدخلوا للعشاء في منزل البيه عبد الله خليل لأنه ابن الحي وبيته مفتوح.. وفعلاً قدم لهم «العشاء» وعندما اقترب منهما «البيه عبد الله خليل وصاح قائلاً «يا عزو خليك من الهباب البتشربو ده الداير تغمسو في الشطة ده ما سمك، ده فطير بالسكر».. وتأتي «الجبهة».. ولم تكن أكثر من سحب تفرغ أحشاءها.. في وصل وتواصل.. وهي الأمير نقد الله.. والمطر يقول.. إن الأمير عندما صار وزيراً للداخلية واصل السكن في بيته البسيط في ود نوباوي.. وكان يفتح الباب بنفسه للطارق.. ولاحقاً نزع الباب نهائياً.. وما زال بيته هو المنزل الوحيد في كل أرجاء الولاية.. الذي ليس له باب وعندما كان الأمير في طريق عودته من جوبا في مهمة رسمية أحضر المحافظ مجموعة كبيرة من «الشتول» لإرسالها إلى الخرطوم هدية للزعيم الأزهري.. فرفض الطيار صبري أرباب حمل الشتول قائلاً.. دي طيارة مش عربية كارو.. وعندما اشتكى المحافظ للأمير نقد الله رد عليه ببساطة.. أنا مش طيار وما ممكن أتدخل في شغل الراجل.. وتأتي «الطرفة».. وعطاء وخير يتدفق وجداول لا تنتهي.. وتماماً هي الشيخ علي عبد الرحمن وعندما كان وزيراً للداخلية.. وصورة تلك «المطرة» الهادرة.. يرويها المناضل الصلد سمير جرجس.. الذي يقول.. أرسلت القاهرة صحفياً لإجراء حوار مع الشيخ علي عبد الرحمن وزير الداخلية في الديمقراطية الأولى.. فطلب الصحفي من سمير جرجس تحديد المواعيد مع الشيخ علي.. فأخذه سمير جرجس لمنزل الشيخ علي بالخرطوم والمنزل منزل شعبي يظل أبداً بابه مفتوحاً فقط لأن التراب «مكوم» أمامه مما يجعل إغلاقه مستحيلاً وجد سمير ورفيقه الصحفي المصري بعض الضيوف في الديوان وبعد فترة حضر وزير الداخلية شيخ علي ورحب بهما ثم جاء الغداء وجلس الجميع حتى «السواق» على «برش» على الأرض والطعام كان «ملاح قرع وويكة» وبعد الشاي طلب الصحفي موعداً للمقابلة فقال الوزير شيخ علي لسمير جرجس «إنت يا سمير بتعرف مكتبي وين.. والبيت يا هو فاتح.. وهنا اجتاحت الدهشة بل الذهول الصحفي المصري.. خرج وهو يصفق بيديه.. وزير داخلية يأكل مع السواق ملاح قرع.. والخريف يتواصل.. والمطر يهطل.. وسحب خير وبركة.. تنهمر تترى.. تسيل على أرض الوطن.. تشكل أنهاراً وبحيرات وجداول.. كلها بطعم.. الأرض بلون الشعب.. بعطر الأمة.. سحب.. بديعة الأسماء.. شاهقة الانتماء.. رفيقة الأسماء.. مشاعل وأقباس ونيازك.. أقلب صفحات كتاب التاريخ.. أقرأ ولا أكاد أصدق.. هل.. هناك.. حكام.. ووزراء.. في طهر الأطهار.. في ورع الزهاد.. قد مروا من هنا.. لم أحكِ لكم.. عن سحابة فاروق حمد الله.. ولا مزنة يحيى الفضلي.. ولا «عينة» حسن عوض الله.. ولا وابل أمين التوم ساتي ولا عينة «الضراع».. والتي كانت حماد توفيق.. الذي كان وزيراً للبنك الزراعي.. والذي كان يمشي راجلاً.. لورشة تصليح الراديو.. لتصليح الراديو خاصته والذي كان يسكن منزلاً.. لا يمتلك فيه شبراً.. بل كان يخص أحد معارفه.. نعم أحبتي.. هذا هو المطر.. الذي عنيته.. والآن- أحبتي- هل فيكم من يحدثني عن.. الحريق؟؟