الحصاحيصا«عد الحاج»: عبدالعظيم صالح:تصوير:النذير دفع الله : لم يدر بخلدنا أن تتحول وقائع هذه الرحلة إلى حروف وصور ناطقة لقد كانت وجهتنا يوم الخميس خامس أيام العيد لقرية «عد الحاج» جنوبتمبول لحضور مناسبة اجتماعية .. فضلنا أن نذهب إلى الحصاحيصا ب«بص ودمدني». الرحلة مضت عادية ولكن السفر بين المدن في السودان في الخريف له حساباته المعقدة فقد فاجأتنا أمطار غزيرة في الحصاحيصا كل محاولات ايقاف البص لم تكلل بالنجاح نصحنا الركاب بعدم المغامرة والنزول في الحصاحيصا والتي تحولت لكتلة بيضاء غطت السماء وشوارع الأسفلت وجعلت الجميع يفرون،البص هرول في إتجاه مدني.. بعد أكثر من 15 كلم توقف بنا البص في العمارة طه. ركبنا حافلة وعدنا أدراجنا للحصاحيصا وجدنا المدينة في حالة غرق والمياه المندفعة ابتلعت كل عربات الأجرة الصغيرة ..لا يوجد ما يشير لوجود محلية سوى لافتة قماش تقول إن المعتمد يهنئ المواطنين بعيد الفطر .. ذهبنا لموقف الأجرة تمبول رفاعة في مثل هذه الأوقات الصعبة يحتاج المواطن للسلطات أصحاب عربات الأجرة يغالون في الأسعار الراكب لتمبول أقترب من ال100 جنيه وقبل لحظات كان ب10 جنيه ..ينسجون إشاعات مثل السيل شال الردمية.. إنها المتاجرة بمياه الأمطار توالت أمامنا عروض أن ننزل للهلالية أو الجنيد انها تراجيديا السفر والاستغلال البشع والمعاناة في مثل هذه الظروف. نساء وأطفال وشيوخ يتوسلون أصحاب السيارات والسلطة غياب .. الكل ينوي الهروب من مستنقع الحصاحيصا ولا أمل في العثور على وسيلة انتقال آمنة. تلفوناتنا لا تنقطع مع أهلنا في عد الحاج صديقنا احمد بدوي والد العروس يبدو منزعجاً ويقترح أن يرسل لنا عربة فكل شئ جاهز قلنا له دعنا نحاول مرة أخرى.. ولم تنجح محاولاتنا .. في نهاية الأمر استسلمنا لخيار المبيت وجاءتنا سيارة ومعها «أمجد » ابن خاله لنبيت في حي الصداقة والصباح رباح. في طريقنا للمنزل خضنا في الوحل والظلام وبطاريات الموبايلات تنير الطريق ، نمضي ليلة رائعة في دار عمنا محجوب وأسرته الكريمة.. الحديث تناول الأمطار وأحوال البلد وسط كرم سوداني ليس غريباً !! في الصباح نعود للموقف وناخذ عربة أجرة بكل سهولة ..ونسأل أين ذهب تجار الازمات؟ وأين اختفى سماسرة المواقف..؟ المدينة تتثاءب ببطء وأثار البيوت المدمرة تبدو واضحة.. يصب الأهالي جام غضبهم على السلطات وسوء التخطيط الذي لازم الإنشاءات الجديدة ك« الكوبري» وشوارع الاسفلت ،يقولون إن الأمطار التي هطلت لم تشهدها الحصاحيصا لأكثر من ربع قرن. الفيستو تبدو مرحة ونشطة وهي تشق طريقها بين المروج الخضراء وتباشير الخريف.. وجهتنا تمبول نعبر كوبري رفاعة ونمر بالجنيد وهجليج والبويضة وكيتوه وعد الغباش.. نتحدث بحزن عن واقع الزراعة وحظ السودان العاثر منها حتي نصل مدينة تبمول وسوقها المذكور في« إبلي المشرفات» لشيخنا البرعي عليه رحمة الله. وجدنا العربة ذات الدفع الرباعي في انتظارنا ..وتشق طريقها بدلال ونعومة بين الدروب الوعرة..نمر بقرى وحلال تناضل لتبقى وتمشي للأمام حتى نصل عد الحاج. ما أجمل اللحظات في اطراف الجزيرة والبطانة ..ماأجمل الريف ..وما أحلى لمة الأخوان في ديار أهلنا آل الشوش العامرة والمضمخة بأريج المحبة والتواصل الشفيف مع الآخرين نحس بطعم اليوم الذي قلما يتكرر. جئنا لزواج ابنتنا عبير والتي كنا شهودا على ميلادها في صنعاء اليمن. الأن يعقد قرآنها على الشاب الخلوق الطيب الفاضل وهو من ذات الأسرة الكريمة والتي تعود جذورها إلى ديار جعل.. احتشدت كل المعاني أصدقاء القرية والأهل وزملاء الدراسة تجمعوا ومن القرى المجاورة جاءت الوفود، خطيب الجمعة في جامع القرية تحدث عن أهمية عدم العودة للمعاصي بعد رمضان ..قلت لشكر الله خلف الله في التلفون تعالوا بكاميراتكم لتنقلوا للدنيا جمال السودان وروعة الخريف وطيبة أهله.. الناس هنا كما قال الطيب صالح «اغنياء» رغم أنهم بمقاييس العالم الأول «فقراء».. أغنياء بكل هذه القيم والمعاني وقلت لشكر الله حتى مراسي الشوق ستجد حلقته مكتملة هنا.. فامامي «أحمد» القادم من أمريكا و«عبدالباقي بدوي» من بريطانيا و«عبدالوهاب علي» من البحرين و«نصر الدين » و«الطيب الفاضل» من الكويت و«دفع الله محمد» من السعودية والأستاذ «خالد البطحاني» من اليمن والقائمة تطول! شهدنا مراسم العقد ودعوتي الفطور والغداء ..الصالون يتحول إلي برلمان صغير يناقش فيه الحضور كل شئ. عند الأصيل «نوينا» السفر للخرطوم .. الضغوط علينا كانت هائلة فاستجبنا للمبيت وكان ليلة هي ألف ليلة! بدأناها بالتأمل في قبة السماء والتي بدت مرصعة بالنجوم واستمعنا لشروح وافية حول حركة الكواكب والعنقريب والعقرب و«الترية» وعينة النترة..وتكفلت نسائم البطانة بهدهدتنا ..وبيننا مقاطع من الدوبيت وحكايات ود أبو سن وبعض لقطات من الحياة في ديار الانجليز والأمريكان وأطياف من قصص الخليج ووقفات مطولة عند أهلنا في اليمن السعيد، الأستاذ خالد البطحاني كان مذهلاً وهو ينشد بكل هذا الصوت الاذاعي القوي أبيات وأبيات من فحول ما قاله المتنبئ هذا الأستاذ المربي والمعلم القديم مشروع مبدع وأن تأخر به الزمن قليلاً؛ فالدهن في «العتاقي» ومن يطلبه من أهل الفضائيات فتلفونه بطرفنا. في الصباح تسربلنا ببعض الأسى ونحن نهم بالمغادرة وكان الوداع كذات الاستقبال.. وعندما اخذت السيارة موقعها في الطريق الشرقي ووجهتنا الخرطوم كان كل شئ يبدو وراءنا كحلم جميل أما الواقع فإنه يقول إن السودان أحلى رغم كل الظروف والتعب؛ و«المكذب» يزور «عد الحاج» شرق تمبول.