تجمعني بالإخوة في صحيفة آحر لحظة صلات محبة ومودة توثقت عراها بحرصهم الشديد علي المشاركة في أحزان واتراح إخوان لنا وأحباب في الوسط السياسي والإعلامي .. وكثيرا ما حملتنا تصاريف القدر وواجب المواساة لأماكن وأحياء بعيدة داخل وخارج العاصمة الخرطوم .. مساء أول أمس السبت كنا معا في مشوار يختلف كثيراً هذه المرة .. سنذهب سوياً لمنزل الشيخ الترابي لا لنلتقيه ونسعد برؤيته كما هي حال إخواني وأساتذتي في الوسط الصحفي والإعلامي الذين يحملون للشيخ الترابي محبة ً ومودة غرسها في دواخلهم بطريقة تعامله معهم .. لكل واحد منهم مع الشيخ قصة ٌ .. وطرفة ٌ .. وأسرار وأحاديث يخصه بها دون غيره .. وهي حاله معي كصحفي ظللت حريصاً علي مقابلته والاحتفاظ بأسرار وأحاديث في الحياة وشأن السياسة والرجال .. جالت هذه الخواطر بدواخلي ونحن في طريق الرحلة التي بدت لي طويلة وعصية ً هذه المرة .. اقتربنا من منزل يحبنا ونحبه .. لنا معه في كل ركن وموضع قدم وجلسة أنس وحديث موقف .. وحكاية .. ونشيد .. منزل نعرفه ونحبه أكثر من بيوت أهلنا ومساكننا وموطن عشيرتنا والأهل .. هذه حالي مع منزل الشيخ الترابي .. هذا الرجل الذي أحبه .. وأجله وهي ذاتها المشاعر التي يكنها له الملايين من محبيه وتلاميذه وعارفي فضله .. عندما وضعت رجلي علي عتبة منزله بالمنشية قفزت من ذاكرة الأيام وقفته ذات صباح في ذات المكان وهو ينتظرنا بكامل هيئته وأناقته .. تأخرنا عليه نصف ساعة من الزمان .. وددنا لو أن الأرض ابتلعتنا يومها ونحن نصغي له وهو يعلمنا كيف أن التأخير عن موعدنا المحدد بثلاثين دقيقة سيخصم من رصيد عملنا الدعوي وهي دقائق لن تعود وليس بمقدورنا التكفير عن هذا إلا بجهد يعوض تبديدنا غير المبرر للزمن !! كان ذلك أول درس تعلمته عن قيمة الوقت في حياة الداعية ومنذ ذلك التاريخ أجتهد ما وسعني الجهد أن أحضر قبل الموعد المحدد لي بنصف ساعة أو ربع ساعة أقله !! تداعت الصور والمشاهد .. كدت انفجر باكياً علي صدر الشيخ الصافي نور الدين .. لكنني تجلدت وتماسكت .. فقد تعلمت من شيخ الصافي ذات يوم فضيلة الصبر عند الصدمة الأولي .. حبست مشاعري وغالبت دموعي وأنا أقف وجهاً لوجه أمام أخي الدكتور عبيد الله محمد عبيد الله ابن دفعتي .. تذكرت أننا من جيل لم يجد الترابي ضعيفاً .. ولا جزعاً في ساعات المصائب والأهوال .. قلت لنفسي : تماسكي .. كيف تسقطين في أول إمتحان عملي لدروس وتعاليم الترابي في استسصحاب معاني الصبر وبرد اليقين .. أليس هو من علمنا قيمة تعاطي كل شؤون الحياة بصبر وثبات ؟ تماسكت .. لكن تداعي الصور والمشاهد لم يترك لي قوة احتمال علي البقاء .. دفنت وجهي في الجموع التي تنادت لمنزل الشيخ تبكيه .. خرجت من ساحة الحوش وقلبي معلق بصالون الشيخ وموضع جلسته .. قلت لأخي أسامة عبد الماجد : والله العظيم .. لولا يقيني بأن الموت حق .. ولولا وداعي لإخوان لي واحباب غادروا الدنيا وأغمضوا أعينهم إلي الأبد .. لولا هذا التسليم بقدر الله وحوله وقوته لما أيقنت أن الترابي قد مات !! في طريق العودة ربت الأخ العزيز أسامة عبد الماجد علي كتفي طالباً مني المشاركة معهم في آخر لحظة بكلمات عن الشيخ الترابي .. بت ليلتي تلك متابعاً وقارئاً لما خطته أقلام أناس كثر بكوا الشيخ الرمز الترابي بكلمات من سويداء القلب ومشاش العظم .. قلت لنفسي : لا تبكي الترابي بالكلمات .. أبكيه بمواقف ومحطات شكلت حياتي ورسمت لي خطوط الرحلة التي بدأتها عن وعي منذ اللحظة التي إلتقيت فيها الشيخ الترابي لأول مرة في حياتي في العام 1990 .. كان للأخ المجاهد الرمز الناجي عبد الله فضل تقديمنا للشيخ الترابي .. أكرمني بالسلام عليه وتحيته داخل مسجد جامعة الخرطوم .. تلك هي بداية رحلتنا مع الشيخ الترابي .. رحلة تعلمنا فيها الكثير .. خبرنا الحياة .. ذلك انه علمنا معني أن نعيش بلا إله إلا الله .. عليها نحيا .. وعليها نموت ..