{ بدعوة كريمة من الأخ الصديق علي البشير، الأمين العام لمجمع النور الإسلامي ورئيس مجلس الأمناء لمؤسسة القدس مكتب السودان، أتيحت لي الفرصة لحضور محاضرة قيّمة حملت العنوان (التسوية السياسية للنزاع في دارفور.. الموجود والمفقود في الدوحة)، قدمها المستشار بمركز دراسات جنوب الصحراء أوتاوا كندا، المهندس تاج الدين الخزين، وقد أقيمت المحاضرة بإحدى القاعات بالمجمع أمسية الأربعاء الماضي. { هي المرة الأولى التي أزور فيها مجمع النور الإسلامي، وقد بهرتني بساطة المكان وجمالياته وحسن ترتيباته وتجهيزاته، وقد لعبت الفضاءات الخضراء والإضاءة ومآذنه الأربع دوراً مقدراً في كمال وجمال لوحة المكان، فأدركتني طاقة إيمانية هائلة، ومزاج عميق، وأنا أخطو خطواتي تحت صوت نداء صلاة العشاء نحو المسجد، يغمرني فرح المؤمنين، وفرح كل سوداني أصيل، وهو يزهو بوجود مثل هذه الأبنية الطاهرة على أرض بلاده الحبيبة، وهي بهذا الجمال وهذه المعاصرة الملتزمة بقيم وسمات الأصل لأمة خاتمة وناهضة بإذن الله تعالى. { المحاضرة كانت عقب صلاة العشاء، وقبل أن أدرك المحاضرة؛ أدركت حقيقة حياة المجمع التي تقوم على تنظيم دقيق في الهيكل والأنشطة والغايات والرؤى والمهام، مثله مثل كافة المؤسسات العريقة في الدول المتقدمة، ينضح حضارة ومهنية وعلماً ونظاماً دقيقاً، والكوادر العاملة في داخله رقيقة ومتفانية في خدمة العلم والدين، قبل تفانيها في خدمة ضيوفها، ويسمِّي المجمع مجموعة من البرامج تحملها أفكار كبيرة، على شاكلة (تنظيم الخريطة المعرفية)، و(تنظيم العقل)، و(فهم الواقع)، و(فهم الدين)، و(إدارة الواقع)، وتخدم هذه العناوين برنامج المجمع لإعداد قادة النهضة، وكذلك يطرح المجمع برامج أخرى تحمل العناوين الآتية: (رتِّب حياتك)، و(إنتاج المعرفة)، و(الجغرافيا والتدافع)، و(بناء مجتمعات قوية)، و(ثورة الأفكار)، بالإضافة إلى برامج جماهيرية وإعلامية كلها تطرح طرحاً معاصراً وتقدم خلاصات رائعة ودروساً ومحاضرات نادرة، يؤمها علماء من داخل وخارج البلاد. { المحاضرة التي كنت بين يديها تشخِّص أزمة البلاد الأولى، وتنظر في مفاوضاتها التي استعصى عليها الحل، وتعقدت، فينبري لهذه المهمة ابن من أبناء السودان، ومستشار عالمي يتقدم صفوف رفاقه في أمريكا وأوروبا بعلمه وخبرته وسيرته العلمية في وطنه الثاني (كندا)، وهو بذلك مفخرة لأمته ولوطنه الأول السودان. { بدأ الرجل محاضرته مستنداً على العلمية والمنهجية في فضِّ النزاعات، ومبتدراً بالعدسات الست التي تنظر للنزاع في دارفور، وهي عدسة الحكومة، وعدسات الحركات المسلحة، والقبائل العربية، والمجتمع الدولي، والقوى السياسية الأخرى، ومنظمات المجتمع المدني. واستعرض وجهات نظرها في شكل هرم استطاع من خلاله إبراز التباين بين هذه العدسات، وأشار في هذا الجانب إلى أن هناك عملية مهمة، كان من المفترض إنجازها، ولكن للأسف لم تتم؛ في نزاع دارفور، وهي عملية ترسيم النزاع وتحليله، ومن ثم تناول آليات التفاوض وأطرافه، ممن يطلق عليهم أصحاب الشأن، الذين ينقسمون إلى قسمين، الأول أصحاب الشأن من المقام الأول؛ وهم الحكومة والحركات المسلحة، وكذلك كشف في محاضرته عن تعريف الحركة المسلحة والشروط الثمانية التي يجب أن تتوفر فيها، أما أصحاب الشأن من المقام الثاني، وهم النازحون واللاجئون، فقال في هذا الجانب إن من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها منبر الدوحة هو إقحام أصحاب الشأن من المقام الثاني في عملية التفاوض، وقد استشهد بأحداث زالنجي الأخيرة، وقال إنها نتاج طبيعي لخطأ كبير وقع فيه المنبر، وعموماً تناولت المحاضرة تحليلها للنزاع وللمفاوضات بمهنية عالية، وقد أسهم الحضور بمداخلاتهم في إثراء المحاضرة التي خرج منها الجميع بفوائد كبيرة، وهي تطرح الإشكاليات ومن ثم الحلول، وتسد الثغرات بمنطق قوي. { خلاصة المحاضرة تكشف عن عيوب كثيفة تلاحق منبر الدوحة التفاوضي، بالرغم من توفر النوايا والمال لهذا المنبر، وبالذات كثافة الحشود من الحركات والمجتمع الدارفوري والمنظمات الدولية وممثلي الدول، بالإضافة إلى الدوحة نفسها باعتبارها مدينة إعلامية تجعل من الصعب الحفاظ على أسرار التفاوض، وهذا ما يضر بالعملية التفاوضية، ومن المفاجآت أن التعريف الدقيق للحركات المسلحة يسحب هذه الصفة عن كافة الحركات المسلحة في دارفور، وبالذات بعد أن استطاعت القوات المسلحة تجريد كافة الحركات من الأراضي التي كانت تسيطر عليها. { أخيراً التحية لهذا المجمع وهو يرفد حركة التنوير في بلادنا بمثل هذه الأنشطة القيمة، وبمثل هذا الطرح المتقدم من الأفكار والأسماء والعلماء والخبراء، نسأل الله لهم التوفيق والسداد، وهم يعملون لأجل نهضة بلادهم.