{ لا شك أن قضية الانفصال مازالت حديثاً متواتراً على كل لسان، وشريكاً فاعلاً في كل مجلس، إلى جانب قضية غلاء الأسعار بوصفها حالة فرضت نفسها دون استئذان على الجميع وفي توقيت يحسبه الجميع غير ملائم. ومنذها ونحن نعاني ونفكر ونشكو بطول وعرض البلاد، ولا أذيع سراً إذا ما قلت إن شاغل التغيير وهواجسه وما يتردد حول الأيام المقبلة من توقعات وشائعات، أصبح مدار بحث ومداولة واقتراحات وأمنيات، ونقاشات ومساجلات بين الخاصة والعامة من الناس، والقليل منا يتمتع بميزة الاستماع دون الإدلاء، والكثيرون يدَّعون العلم ببواطن الأمور فيقدمون محاضراتهم كيفما شاءوا، وتبقى الحيرة مسيطرة على الأوضاع، والضباب يلوِّن المدى، ونحن نتساءل: «ماذا بعد»؟ { والخوف من المجهول غريزة فطرية، ومعظمنا لا يعنيه من السياسة أكثر من كيفية تسييرها شؤون حياتنا البسيطة وما تحمله في طياتها لمستقبل أبنائنا، فقد أصبحنا - بين ليلة وضحاها - منقمسين على أنفسنا وأحلامنا ومواردنا وحتى إحساسنا بالأمان، يطلع علينا كل صباح بإرهاصات وأنباء جديدة معظمها غير سار، وكلها تتحدث عن غدٍ أسود على كافة الأصعدة، ورغم تناقضها مع بعضها البعض إلا أنها جميعاً تشير بالتلميح حيناً، وبالتصريح حيناً آخر إلى أننا نمضي نحو هُوّة سحيقة من ضيق العيش والغلاء وربما الحرب والموت والدمار، قلة قليلة تؤكد أن (بكرة أحلى) وأننا بدأنا الآن فقط الصعود إلى القمة لنلحق بركب الحداثة والدّعة. وهكذا احترنا بين هؤلاء وأولئك، لا نعلم من نصدق ولا ماذا يجب أن يكون رأينا تحديداً. { ورغم هذه الحيرة، مازلنا نركض وراء الحقيقة، يحدونا الأمل نحو واقع أفضل، ومايزال اهتمامنا الجمعي بمتابعة الأحداث كما هو لم يتراجع ولم يفتر، بل ازداد وانتشر بين كل الفئات حتى تلك التي عُرفت دائماً بالسلبية واللامبالاة، فليس أهم من لقمة العيش لنكترث لأمره ونتفق على كل المستويات الاجتماعية والثقافية والمادية على الاهتمام بقضية الحياة الأساسية: قضية الغذاء والأمن. وهكذا بدأنا نستمع لكل الفتاوى والحوارات المطولة التي تدور بين النخبة الفاعلة والطبقة الكادحة كلٌ حسب نظرته ومعايشته للتفاصيل، ومعظمنا يشعر بأن شيئاً ما يلوح في الأفق حتى لو لم نكن نعلم ماهيته تماماً. ولكن الظواهر السالبة التي طفت على سطح الحياة مؤخراً نتيجة للفساد والإهمال والاعوجاج والأنانية وضعف الالتزام والتقاعس عن المسؤوليات؛ كلها تؤكد أن هناك قصوراً ظاهراً لا بُد من تداركه وإلا فإننا سنفقد الثقة في كل ما ومن حولنا وفوقنا وإلى جانبنا. { إذن، لا بُد من التغيير، على أن نخرج بالمعنى من كونه مجرد تعديل محدود في المناصب أو السياسات إلى ما هو أعظم وأبلغ أثراً بالقدر الذي أصبح به شأناً عاماً يتصل مباشرةً بمستقبل الوطن وقدرتنا كمواطنين على التحديث والتطوير، الشيء الذي لا يتأتى إلا بعد إحساسنا المطلق بالاستقرار والاطمئنان والراحة النسبية من الركض وراء لقمة العيش ومطاردة الأحلام، فنحن - كطبقة كادحة - لم يعد يعنينا من يذهب ومن يبقى بقدر ما يعنينا من يكترث صادقاً لأمرنا، فالأفراد يروحون ويجيئون وفقاً لسُنّة الحياة، ولكن على الجميع أن يؤدوا أدوارهم ويجتهدوا في تنفيذ ما هو مطلوب منهم بشيء من التقوى والضمير والشعور بالآخرين. { إنّ التغيير المنشود ليس هدفاً في حد ذاته، ولكنه وسيلة سلمية لتحقيق أهداف بعينها هي كل ما نريده كبشر، وكل ما نريده ببساطة هو التطور والنماء والأمان و«الشبع» و«الصحة» و«التعليم» مثلنا مثل سائر العالمين من حولنا، نريد الشعور بالوطنية ولا نريد أن نشعر بالغربة داخل حدود هذا الوطن التي لم تعد معلومة لنا تحديداً، ونريد نهضة فعلية شاملة لا مجرد شعارات ونريد أن نمارسها في واقع نظيف ومجتمع معافى من كل أمراض العصر التي أولها الغلاء. إننا نريد غداً أفضل. { تلويح: ماذا نريد؟.. «نريد خبزاً وحناناً».