{ والقصة المؤلمة التي يرويها لنا الكثيرون يومياً، يختتم روايتها رجل بدرجة عقيد في القوات النظامية، رجل يمتلك قسماً وشرفاً بألا يخون الشعب، فعلى الأقل أننا نعيش مرحلة (فرز الألوان العربية)، فالجيوش العربية تجد تخريجاً شرعياً بقسمها الغليظ «بأنها تدين للشعب» وليس هي (حرس صيد) أو قُل صيد سهل للسلطة، أية سلطة. { قال الرجل العقيد، لقد تعرّض والدي إلى أزمة صحية بالغة فأخذته في بادئ الأمر إلى مستشفى بربر، فأشاروا إلى أنهم لا يمتلكون «جهاز أشعة مقطعية»، وطُلِب مني أن أذهب به إلى جهة أخرى، فذهبت به إلى مستشفى عطبرة كبرى مستشفيات الولاية، وكانت دهشتنا بالغة «بأن مستشفى عطبرة الكبير لا يمتلك جهاز أشعة مقطعية»، يقول السيد العقيد، ووالده حالته الصحية بالغة الخطورة، فطُلِب منا أن نذهب للأمام، قال فذهبنا إلى مستشفى شندي، آخر قلاع الولاية للاستشفاء جنوباً، ووجدنا بعض العذر لشندي، فلئن كانت عطبرة«المدينة الأم» التي على مرمى حجر من حكومة الولاية، فهي بلا أشعة مقطعية، فمن أين يأتي الإشعاع والنور والحياة والأمل لشندي؟!، لم يملك الرجل إلا أن يأتي في خاتمة المطاف إلى الخرطوم (محل الرئيس بنوم والطيارة تقوم) وحيث الأشعة المقطعية وغير المقطعية! { تصوروا معي أن ولاية بأكملها، هي ولاية نهر النيل، ولاية الأسمنت والتاريخ والذهب، لا تمتلك جهاز أشعة مقطعية، ولا أعرف كيف تُدار العملية الطبية في هذه الولاية بمعزل عن هذا الجهاز الطبي المهم، بل كيف يمكن أن تتحدث ولاية عن انجازات ومكتسبات وتنمية وتنثر الوعود والآمال، وهي لا تمتلك أبسط مقومات الطب الحديث، بل لعمري ما هي أولويات أي حكومة تحترم نفسها وتحترم جماهيرها، إن لم تكن البداية المنطقية بإقامة المشافي، على أن تبدأ المشافي مسيرتها بالأجهزة الطبية التشخيصية، علماً بأن هنالك جيشاً جراراً يفترض أن يضطلع بهذه المهام، يبدأ بوزارة صحة بحالها، وزير ومدير ومخصصات وعربات ومعينات، ثم مدراء مستشفيات وطواقم مساعدة، والنتيجة صفر كبير، ووراء ذلك حكومة بحالها، فحكومة لا تقوى على توفير «جهاز تشخيص» فيفترض أن ترحل اليوم قبل الغد، فأين رئيس الجمهورية في زمان الثورات العربية! { أنا لا أعرف على وجه الدقة كم يكلف «جهاز الأشعة المقطعية» ولكن، ومهما ارتفعت قيمته، فلن تزيد عن ثمن عربة فارهة يمتطيها وزير الصحة أو معتمد عطبرة، فماذا لو تنازل وزير الصحة عن «عربته الأولى»، أو يتنازل المعتمد عن سيارته الثانية، ليجلب بثمنها هذا الجهاز؟، فالعربة تخدم رجلاً واحداً وهذا الجهاز يخدم ولاية بأكملها! { أين السيد الوالي وحكومته المحترمة من هذا الأمر الخطير، فلئن كانوا لا يعلمون فهذه مصيبة كبيرة، ولئن كانوا يعلمون فهذه كارثة ترقى لدرجة إقالة حكومة الولاية بأكمها. { بل في هذه الثقافة المروِّعة إجهاض لفلسفة كل منظومة الحكم الاتحادي، فلئن كان كل مرضى الولاية سيزحفون إلى مستشفيات المركز وتعليم المركز وخدمات المركز، فماذا بقي هناك من أدبيات «توطين الجماهير» والخدمات في ولاياتهم؟!. { وأخطر ما في هذا الأمر، أن هذا الإهمال المُريع يأتي والثورات العربية تشتعل من حولنا. إنها مرحلة لا تقبل الأخطاء التي يمكن أن تُكلِّف بلادنا غالياً، ولا ينسى السيد الوالي أنه في عطبرة «قلعة النضال الثوري». { مخرج، وعلى مستوى أقلامنا نُدرك أنه «زمان الكتابات الشجاعة» التي تخدم مصالح الجماهير ولا شيء غير الجماهير، وأنه لشرف لو تعلمون عظيم.