يُعرف عن الترابي أنه صاحب الجلباب الأبيض، وصاحب الابتسامة البيضاء، وصاحب الانقلاب الذي غيّر مسار الحياة السياسية السودانية إلى الأبد ليلة الثلاثين من يونيو 1989م. يومذاك تحالف عرّاب الإسلاميين والعسكرتاريا، لإسقاط ديمقراطية إن أخذها كلب لما قال له أحد (جر)، ومع سهولة الأخذ اختار الرجل وزمرته أخذ الحكم غلابا، ثم تولى إلى الظل، ظل كوبر، وحين احتار العالمين في هوية الجهة، الواقفة وراء الانقلاب، وتساءل الناس: هل هؤلاء الرجال جبهة؟ خرج الترابي من وراء الكواليس بعدما نفض جلبابه الأبيض، وتلفّح ابتسامته البيضاء، مبتدراً عهداً أبيض على أهل الجبهة، وشديد السواد على من هم دونهم، وبين الفريقين توزعت الأمة السودانية. (1) فاحت سيرة خريج السوربون الباريسية بعد ليلة "المتاريس" الشهيرة التي قرر معها طلاب جامعة الخرطوم انتزاع الجنرال إبراهيم عبود من على حكمه العضوض. ومع أن التاريخ لا يذكر ما قاله الترابي بالضبط في ميدان الأسرة إبان تأبين الشهيد أحمد القرشي، إلّا أن الشواهد تؤشر إلى أنه قال قولة نقّحتها شعوب العرب بعد عقود فصارت (الشعب يريد إسقاط النظام). وعقب الخطبة، توجهت الجماهير صوب قصر عبود، منجزة (أكتوبر الأخضر)، وتاركة الأجيال السودانية تتغنى باسم أكتوبر وصانعيه (باسمك الشعب انتصر .. حاجز السجن انكسر). (2) في السجون قضى الترابي كفلاً من عمره الثمانيني المتنازع بين إعلاء مسيرة الديمقراطية، وسيرة الإخوان المسلمين. ولكن ما جعل هذا الأمر مراً، كونه صادر عن إخوانه وتلامذته الذين أودعوه السجن غير ما مرة، مرة لتوافقاتهم في المؤتمر الشعبي مع الحركة الشعبية، ومرة لاتهامهم بمحاولة انقلابية، ومرة لمساندتهم الحركات الدارفورية. ولكن ذلك كله ما منع الترابي من اهتبال فرصة انشقاق الطود وافتراق القوى السياسية السودانية بين مؤيد لخلع مرسي وراءٍ للخطوة بأنها تمهيد لابتلاع الإسلاميين متى ما سنحت الفرصة؛ فكان أن غالبه الحنين للصفوف التي ابتناها بعمره، ناسياً المفاصلة بكل فصولها. (3) ما حدث للإسلاميين في رمضان العام 1999م من تخاصم كاد أن يذهب بريح الإسلاميين، ويريح خصومهم. فصليل المواقف يومذاك، قاد بعضاً من تلامذة الترابي لحمل سيوفهم عليه، وقيادة انقلاب أبيض ضد شيخهم الذي دعا بالمسارعة في قطف لوزة الحكم، وإن تجاوز في سرعته أحد جالبي غرسة الإخوان المسلمين إلى السودان، الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، صاحب مدرسة التربية، وغرس القيم الفاضلة بداخله عوضاً عن فرضها عنوة. قالوا إن سبب المفاصلة عشرة نفر، قولوا العشرات، ولكن بفضلهم ذاق الترابي من الكأس العلقم، وانقلبت دورة الأيام عليه، بتفرق أصحاب مدرسة حكم الإسلام بين (القصر) حيث تكمن السلطة وبين (المنشية) حيث الاحتمالات الكبيرة لعسف السلطة. (4) حين النظر إلى كسوب الترابي، يرى بعض ممن عارضوه بضراوة أنه صاحب اليد الطولى في إعدام زعيم الجمهوريين محمود محمد طه، وأنه فاتح طاقات جهنم على الخرطوم بسبب إيوائه مطرودي العالم في المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، ولن يُنسى له إنه أحد عرابي مدرسة التصعيد على سني الحرب الأهلية، كما وله يرجع التحول في مسيرة الرئيس جعفر نميري من أقصى اليسار إلى أقاصي اليمين. وإن تغافلنا عن ذلك كله، فلن ينسى له أحد كيف قاد مجنزرات الجحافل الإسلامية في العام 1989م لخلع الإمام المنتخب، الصادق المهدي. (5) كان الظن أن عصر الفتاوى المثيرة للجدل، وتكاد تنسب جميعها للترابي، قد انتفى، ولكن جب الرجال البسّام محشود بما يمكن أن يجهم وجوه مناوئيه. دعك من رؤاه التجديدية فيما يلي إمامة المرأة، وجواز زواج المسلمة من كتابي، ومن تضعيفه لحديث "الذبابة"، ولكنه بعدما توسد (الباردة) ما يزال يشعل فتيل الجدل بشأن تعديلاته الدستورية التي خطها بيده وتحدث فيها عن (الطلاق) وزواج المرأة، ويرفض حواريوه كتابة "شولة" فيها، بالرغم من الحبر الكثيف الذي أسالته. (6) يتحدث الترابي بجانب لغة الضاد ثلاث لغات كما أهلوها، كما أنه يتحدث باحتراف لغة خامسة هي لغة الجسد. فالرجل الباتع في لغة القرآن وكان يهم بتطويع آلياتها وأدواتها لتنضاف إلى حفظه لكتاب الله ودراسته لشتى التفاسير لأجل إنهاء تفسيره التوحيدي للقرآن الكريم. كذلك يجيد خريج السوربون، الفرنسية، وخريج أكسفورد، الإنجليزية، كما ويجيد الإلمانية بطلاقة محركات (فولكس فاجن). أما حكاية الترابي مع الإشارات والإيماءات فهي شيء فوق الوصف، فالكثير من عباراته ينهيها بإشارة، أو بحركة رأس، ليترك صاحب التفسير التوحيدي أمر تفسير إشاراته لمن رأى والذي هو بالتأكيد ليس كمن سمع. (7) آخر حديث جماهيري للترابي تلى عقد قران في مسجد القوات المسلحة، وتحدث فيه من أوعز للقوات المسلحة بانقلاب 1989م عن الوفاء بالعقود، وفيما يشبه وصيةً، رأى في علو طرف من أهل العقد على باقي المتعاقدين ظلماً وعدواناً مبيناً. وإن كان هذا خاتمة خروجه للملأ في حضرة الرئيس عمر البشير، فإن آخر أفعاله للإسلاميين كانت إنهاء الخلافات بينه وبين البشير، والذي سيذهب مطمئناً إلى القصر، بينما ذهب الترابي تحفه كثير من الدعوات وبعض من اللعنات إلى القبر.