قرأت مؤخرا مقالا في صحيفة إلكترونية، يتحدث عن رواية المستقبل أو الديستوبيا، وكيف أنها رواية ليست قائمة على الخيال، وإنما على معطيات دقيقة وتنبؤات، ومتابعة للتطور العلمي الذي لا بد يؤدي لكشف جديد في المستقبل. وبينما يؤكد المقال براعة الغرب في كتابة مثل هذه الرواية، يؤكد أيضا على وقوفنا نحن العرب عاجزين عن كتابتها، بحيث نكون مجرد مقلدين لا أكثر، إن كتبناها، ونعتمد على ما أنجزه الآخرون بسبب عدم قدرتنا على الإنجاز. حقيقة وفي كل مجال من مجالات الإبداع، سواء كان كتابة أو رسما أو نحتا، أو حتى رياضة بدنية، تتم المقارنة بين الشرق والغرب، بين مبتكري التكنولوجيا ومستهلكيها، بين الكتاب الذين اعتبروا أساطين في الكتابة هناك، وكتابنا الذين سيظلون صغارا وجهلة ومقلدين حتى يموتوا. إنها نظرة ثابتة لدى الكثيرين، ونادرا ما تتغير وتحت ظروف معينة، كأن يحصل كاتب أو شاعر عربي على جائزة عالمية، كأن يركض عداء عربي في مضمار دولي ويحصد ميدالية ذهبية، وكأن يدخل رجل أعمال بدأ من الصفر في مدينة عربية مغمورة، تقريرا عن الثراء ينشر في مجلة فوربس المشهورة بتقييمها لتلك الأمور. ولو اقتصرنا مجال المقارنة هنا على الكتابة الروائية فقط، فلا بد من ذكر أشياء عديدة قبل أن تدخل نصوصنا في صراع دولي من أجل إسقاطها، ورفع يد النصوص الغربية المرفوعة دائما. كما هو معروف فإن كتابة الرواية قديمة جدا في الغرب، وهم بدأوا عادة السرد المقنن منذ قرون، وهناك روايات تنشر وتوزع وتجد قراء، وأيضا تقدم فيها الدراسات حتى الآن، تجدها قديمة، مثل نصوص شكسبير، وسرفانتس، وألكسندر دوما وكثير من الكتاب الروس، بينما نعود دائما إلى فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لنؤرخ لأول رواية كتبت عربيا، وحتى هذه غير متفق عليها، هناك من يقول رواية «زينب» التي كتبها محمد حسين هيكل في مصر، ومن يقول رواية من لبنان أو سوريا، وهكذا، وربما تكون هناك روايات كتبت في فترات مبكرة أكثر، ولم تنشر، وضاعت كما هو الحال دائما، حيث تضيع كتابات وتبقى كتابات أخرى، ولا نستطيع الإحصاء بدقة أبدا. إذن من الطبيعي أن تتطور الكتابة في الغرب عبر السنوات الطويلة، وأن تتمرد على الأفكار الموجودة، وتسعى إلى اقتراح أفكار أخرى، تضاف لمواضيع الكتابة، وهذه الأفكار لو تأملنا كثيرا منهطا سنجدها موجودة عندنا منذ الأزل، فقط لم تستغل جيدا، مثلا كتاب مثل «ألف ليلة وليلة، ذلك الكتاب الخيالي الممتع في كل قصصه، أخذ منه كثير من كتاب الغرب، صاغوا القصص التي بهرتنا وهي موجودة أصلا ولا ننبهر بها كثيرا لأنها متاحة عندنا. أيضا بالنسبة لعوالم الكتابة، فأنا أعتقد أن البيئات العربية أكثر غنى من البيئات الغربية في وجود عوالم كثيرة ومتعددة، ونظرات مختلفة ومتجددة للحياة، ويمكن العمل عليها بقليل من الجهد لنصنع كتابة مهمة، وكنت مرة في إيطاليا والتقيت بكاتب شاب هناك حصد شيئا من الشهرة، وأول ما قاله لي، إنه يحسد إفريقيا على العوالم الطازجة التي تملكها، وتهبها لمبدعيها، وإنهم هنا يفكرون كثيرا من أجل الحصول على جو غير مطروق ليطرقوه، وقد يسافروا لبلاد بعيدة من أجل اصطياد بذرة مبدعة لغرسها في صحراء الكتابة. بالنسبة لرواية المستقبل، التي ينحني لها القراء العرب إذا كتبت غربيا، ويكشرون في وجهها إذا كتبها أحد العرب، فأنا أعتقد وعلى الرغم من أنها صناعة غربية فعلا، إلا أن العرب يمكنهم كتابتها أيضا، نعم لسنا مصنعين للتكنولوجيا لنتحدث عن روبوتات مستقبلية، تتحرك وتنجز المهام بمجرد أن يفكر مالكها في مهام محتاجة لتنفيذ، أو تلك التي تشخص التهاب الزائدة الدودية وتورم الطحال، وتقوم بإجراء عمليات كاملة بدون مساعدة بشر، ولن يكون منطقيا طبعا لو قلنا إن عم أحمد المزارع الخاص بالمستقبل سيضع قرصا صلبا في جهاز حاسوب صغير ويكتب زراعة أو حصاد، فتزرع الأرض وتحصد وحدها، إنها أفكار خيالية لكن لا تلائمنا مؤكدا، والذي يلائمنا روايات عن المستقبل فيها تخيل لبلاد آمنة وطيبة، وخالية من النزق والجبروت، ولا بأس من استيراد بعض الأدوات الغربية، وكتابتها بالجو العربي، بحيث تكون عربية خالصة، بمعنى أنه إذا استخدمنا فكرة تكنولوجية، ستحال إلى المكان الذي قدمت منه، وفقط نمنحها الفضاء الكتابي لتمضي فيه. وأعتقد يوجد في التراث العربي، تنبؤات كثيرة عن أحوال المستقبل، لو تمت دراستها بتأن لحصل الكاتب على أفكار للكتابة، وكنت دائما وفي أي مقال أقرأه لناقد يصف رواية ما بالخلل والهلهلة، أتمنى أن يقدم هو أفكاره في شأن الفقرات التي ظنها غير ناضجة، لنتعرف على وجهة نظر أخرى، وليس مجرد كتابة نظرية، لا تؤدي لنتيجة. شيء آخر، فإن رواية المستقبل تحتاج لخيال أيضا من أجل قراءتها، والقارئ الذي اعتاد على قراءة الأعمال ذات النسق الواقعي، قد يجد صعوبة في استيعاب ما تحمله من غرائب، تماما مثل القارئ الذي لا يتفاعل مع الفانتازيا، وأول ما يكتبه: رواية سيئة. وأعود لأقول ما أقوله دائما: ليس هناك رواية سيئة، ما دامت ملتزمة بالخط الفني للكتابة، لكن توجد رواية تذوقها أحدهم ولم يتذوقها الآخر، فهمها أحدهم ولم يفهمها آخر. حتى الروايات الغربية أو المقبلة من أمريكا اللاتينية، وخلبت ألباب الناس في سنوات متعاقبة، هناك من لم يفهمها، وظل يتساءل مثلا: كيف يطير شخص في الهواء؟ كيف تحول الجدة حفيدتها إلى فتاة ليل تمارس البغاء في رواية «إيرنديرا الغانية»؟ وإن أردنا القياس على هذا، سنجد كلاما كثيرا يخص الإبداع، ودائما من يسأل بلا توقف: لماذا يكتب الناس أصلا؟ ولماذا يقرأون؟