لا أزال أذكر ذلك اليوم، قبل ثلاثين عاماً دعاني الصديق د. تجاني عبد القادر، رد الله غربته، إلى لقاء يتحدث فيه الترابي، ورحمة الله عليه، ود. غازي صلاح الدين، بخصوص تكوين حزب سياسي جديد يعمل بعيدا عن أجندة الحركة الإسلامية التي كانت قد حُلت وقتها. ذهبنا إلى ذلك اللقاء ووجدت حشدا من البشر يناهز الألف، ولم نلبث إلا قليلا حتى بدأ د. غازي يشرح نظرية الحزب الجديد والجميع في قمة النشوة منبهرين بذلك الحزب الذي سيغير الدنيا ويصنع الحياة الجديدة، كانت الآمال خضراء والدنيا زاهية. ما أن انتهى د.غازي من شرحه حتى صعد إلى المنصة د. الترابي واستفاض في الحديث، لتصل الأحلام غاياتها ويشعر الجميع بأن ذلك هو الحزب الذي لم يخلق مثله في البلاد، أفاض الترابي بلغته الجميلة وأفكاره المرتبة وطريقة عرضه الشيقة، الأمر جعل القوم سكارى وما هم بسكارى.. صعدت الأنفاس وتوقف نبض المكان وفتح باب النقاش، كان أغلب المتداخلين لا يناقشون الفكرة إنما يبصمون على رواعتها ويغدقون الثناء لمحاسنها والترابي يوزع ابتساماته يمنةً ويسرةً، لا أحد يضيف شيئا أو يرى خطأ ما بالفكرة، بعد نحو ساعة كاملة نهض د. تجاني عبد القادر ليفسد تلك النشوة وذلك الجو الفرايحي ، قال د. تجاني كلاما كأنه كان يقرأ في كتاب الغيب المفتوح، ما قاله يومها هو ما جرت به الأقدار وما انتهى إليه حزب المؤتمر الوطني اليوم. قال د. تجاني إن الحزب الذي ينشأ بقرار من السلطة، أي سلطة، سيتربى في كنفها وسيرضع من ثديها وسيفد إليه أهل المصالح لا المبادئ، وسرعان ما يبتعد عن قاعدته الاجتماعية التي أنتجته وهو حزب سوف لن يعتني بالثقافة ولا بالفكر، وسيصبح كعجل السامري جسداً له خوار، ومتى ما انحسر ظل السلطة منه سينتهي كما انتهى الاتحاد الاشتراكي (أو كما قال). يا للمفارقة بعد ثلاثين عاماً يقف رئيس الجمهورية ليقول ذات ما قاله د. التجاني يومئذٍ. ويومها غضب د. الترابي وهاجم د. تجاني هجوما عنيفا، وبدا بقوله (هذا كلام ظاهر ساكت)، ويبدو لي أن د. الترابي قد عرف الخطر الذي يمثله كلام د. تجاني على المحشودين وقتها بغرض التصفيق والتهليل والتكبير، دون أن يُعملوا عقولهم فيما قاله غازي والترابي. ولكن د. تجاني كمفكر حقيقي كان ينظر بعيداً ويقرأ تجارب التاريخ، ولكن من يسمع. ومنذ ذلك اليوم عرفت أن ذلك الحزب قد ولد أصماً وظل هكذا طيلة حياته حتى وافته المنية، هكذا لا يسمع لقريب أو حبيب. أما صاحبنا د. تجاني فمن يومها هو خارج اللعبة السياسية والقيادة في الحركة الإسلامية وحزبها الذي حكم وانتهى أمره إلى ما انتهى إليه.. نواصل.