يمرُّ مثل السهم، سهم أطلق من قوس محارب من جنوب الصحراء في إفريقيا المنسية النائية، هذا القطار المندفع، بسرعة تصل ل«350» كيومتراً في الساعة، لا يشبه القطارات التي نعرفها، ولا التي قرأناها في المدرسة الابتدائية في النصف الثاني السبعينيات في قصيدة للشاعر الكبير كامل كيلاني: هيهات هيهات لا جنٌّ ولا سحره بقادرين على أن يلحقوا أثره هذي المنازل قد مرّت على عجل كأنها ومضة للبرق مختصره هذا قطيع من الأغنام ألمحه وهذه دوحة في ظلها بقره وهذه ترعة في إثرها ظهرت وهضبة وحقول بعدها نضره هذا سواد علا فوق القطار وقد عم الفضاء دخان قاذف شرره هذا القطار بطيئاً بعد سرعته وذا صفير يدوِّي منذرًا خطره هذي المحطة قد لاحت لأعيننا أعلامها وفود السفر منتظره يحل فيها قليلاً ثم يتركها لغيرها ماضيا مستأنفاً سفره كالسهم منطلقاً والسيل مندفعاً يثير في عدوه الحصباء والغبره هيهات هيهات لا جنٌّ ولا سحره بقادرين على أن يلحقوا أثره هنا غلام أراه صاعدًا حذرًا على النخيل يرجِّي فوقه ثمره وهذه ثلة من قرية خرجت وكلهم رافع من دهشة بصره وهذه مركبات حملت نفرا وفوق أخرى شعير يابس وذره وثَمَّ طاحونة لاحت لأعيننا ثوانياً واختفت في الحقل مستتره هذا غدير وهذي روضة أنف تهب منها علينا نسمة عطره شتى مناظر مرت خطف بارقة كما تمر بك الأحلام منتشره مرت وليس لها من عودة أبدًا كالطيف ولّى فمن ذا يقتفي أثره «ب» تساقطت الأمطار بزخّات خفيفة متسارعة... نقاط صغيرة لا رعد ولا عاصفة ولا برق، كأنها دمع السحاب على خد باريس النائمة في ذاك الصباح الباكر من عطلة نهاية الأسبوع. محطة القطارات «غاردولست - Gare de les) تفض عن عينيها سهر الليل وترفع رموشها ببطء في ساعات الصبح الماطرة، والقطار المتجة إلى فرانكفورت عبر سهوب الشمال والشرق الفرنسي، تحمل رقمه ومواعيد قيامه الشاشات الكبيرة في محطة القطارات الأشهر بشرق باريس«10»، والقطارات كثيرة تراصّت في مواقفها اصطفافاً منظماً كأنها خيوط سجاد فارسي قديم، تتعدد الاتجاهات نحو بلجيكا وألمانيا والنمسا، وها هو قطارنا ( TGV ) التابع للشركة الفرنسية ( ( SNCF الرابض في مكانه يتأهب للرحيل، بلا صافرة ولا صنفور ولا كمساري ولا جرس يُقرع ولا جلبة مسافرين ولا عبارات وداع حارة أو نحيب وبكاء مرٍّ وأدمع تطفر من أعين حزينة بالفراق .! جلست مكاني وهنيهات وانطلق القطار كالرمح المجنون، غادر العاصمة الفرنسية في دقائق معدودات، تلاشت من خلفنا معالم المدينة وبدا الريف الفرنسي معانقاً بخضرته وبراريه الزاهية أشعة ذلك الصباح التي تسللت من بين أنسجة السحاب. كل شيء كان هادئاً، المكان وأناقته، المسافرون وصمتهم المطبق، والخدمات الراقية في القطار، من خدمة الإنترنت ( واي فاي WI FI وهي اختصار ل Wireless Fidelity ) وهي خدمة الإنترنت اللاسلكية بسرعة فائقة الدقة على الهواء الحر، إلى الخدمة المتنقلة في الأكل والشرب، عبر مطعم القطار في العربات التي هي في المقدمة، والقطار من طابقين نظيف ولامع ومريح، يعبر بنا من الغرب والجنوب الغربي نحو مدينة سترازبورغ، كنت أضع سماعة على أذني واستمع باستمتاع لأغنيات سودانية خالدة من الكمبيوتر اللوحي ( SAMSUNG GLAXY TAP ) لوردي وعثمان حسين وإبراهيم عوض... عندما بدأت تهمي أمام ناظري تلك الصورة المحفورة في الذاكرة لقطار نيالا .!! «ث» تذكرت أولاً، أستاذنا الكبير نقيب الصحافيين السابق النجيب آدم قمر الدين، كتب قبل اثنتين وعشرين سنة مقالاً في صحيفة السودان الحديث، عن أول قطار يصل لنيالا سنة 1959، وكانوا طلبة في المدرسة الأولية، وكيف أن المدينة خرجت عن بكرة أبيها لمشاهدة القطار الذي وصل المدينة لأول مرة بعد الانتهاء من تشييد خط السكك الحديدية في عهد الفريق عبود، قال النجيب إنه وأترابه بعد توقف القطار اقتربوا منه في حذر ورهبة وتحسسوا هذا الشيء الغريب الذي بدا كحيوان خرافي مهيب، جسمه من حديد ولهب ودخان ينفثهما من مقدمة رأسه وصفير يملأ الآفاق. قطار نيالا.. يا الله!.. ويا له من زمن.. يفصل بيني وأنا في القطار المنطلق من باريس إلى فراكنفورت، فاصل زمني كبير مع أيام قطار نيالا الذي كانت له «شنة ورنة».. تمددت أمامي صورة محفورة في الذاكرة ومشاهد لا تغيب ولا تخبو ولا تسود، لمحطة السكك الحديدية في بلدي ومدينتي، والمسافرين والقطار نفسه من درجاته المتنوعة ( النوم، والدرجة الأولى والأولى الممتازة والثانية والثانية الممتازة والثالثة والثالثة الممتازة والدرجة الرابعة)، وعربات النقل وعربة الفرامل. كانت هذه الصور تهمي كالمطر الباريسي في ذاك الصباح والقطار يمر كمرِّ الشهاب نحو فرانكفورت. «ج» قطارنا الذي يقطع المسافة بين نيالاوالخرطوم في أربعة أيام بلياليها، أجمل من كل قطارات الدنيا، شعرت به في تلك اللحظة، يهتز ويئن في محطة نيالا متأهباً للرحيل في إحدى سنواته الزاهية في مطلع الثمانينيات، تجمعت المدينة وأهلها: المسافر والمودع، اختلطت الضحكات بالبكاء والنشيج والشجى وعبارات الوادع والوصايا، فهذه أم توصي ابنها المسافر للمجهول، وذاك أب يودع أسرته المغادرة، وجيران وأهل جاءوا على عجل لتوديع أصحاب وأحباب، وهناك موظف منقول عائد إلى منطقته أو ذاهب لمكان آخر بعد سنوات قضاها في ربوع دارفور، ومجموعة من عساكر في الجيش يتأهبون لسفر بعيد، وتختلس ثلة صغيرة من شماسة نيالا وأشقيائها النظر لوجوه مَن في المحطة الكبيرة وهم ينفذون خطة للهروب نحو الخرطوم خفية وخلسة المختلس. وهناك من أتى بخطابات يريد إرسالها عبر بوستة القطار ورماها متيقناً بوصولها في صندوق بريد عربة الفرملة، وتكتظ المحطة بالباعة المتجولين وباعة الفواكه والفول السوداني المسلوق والمقلي والمصنوعات السعفية و«تفاتيف الخريف»، وتزاحمت على نوافذ عربات القطار الأيدي المودعة بعد أن كانت قبل ساعات تتزاحم بالحقائب والعفش الذي يسافر في صحبة الركاب... وعلقت على جنبات القطار في نوافذه زمزميات الماء التي تشبه في لونها كاكي العساكر القديم ذي اللون الحرجلي، وفي الدرجة الرابعة قِرَب ماء من جلد الماعز، وكان «عطشجية القطار» يجرون خراطيم المياه بعد ملء القطار بالماء في القلل المخروطية العديدة وخزانات المياه في عرباته وحماماته ودورات المياه. «ح» دوّت صفارة قوية وحادة، أطلقها ناظر المحطة الذي وقف مالئاً أوداجه بهواء الرحيل المنفوخ في صفارته، وأنزل صنفور المحطة أمام القاطرة «الديزل من ماركة الهتاشي» ورنّ جرس ملحاح وتسابق الركاب نحو أماكنهم وعلا صياح المودعين، وببطء تحرّك القطار وتسلّق الصغار والبعض كالنسانيس ما بين العربات نحو سطوحها، وامتلأ سطح القطار بالشباب والرجال والنساء وهؤلاء يسافرون مجاناً بلا تذاكر أو تصاريح السفر الحكومية التي كانت تعطى للموظفين. امتلأ السطح حتى فاض بالمسافرين، أسر بكاملها تجدها في سطح القطار، بأكلها وشربها وزوادتها، وافترش البعض على السطح بطاطين وأغطية قديمة واعتمر البعض قبعات من سعف، وضجّت الحياة في السطح مثلما هي في داخل العربات. كان للقطار آنئذ مطعم في عربة من عرباته مثل القطار الفرنسي الذي سافرت عليه بعد ثلاثين سنة من ذاك المشهد، يؤتى لك بكل شيء في قطار نيالا الطعام في «ترولي متحرك» كل ما لذَّ وطابَ، والعصائر الطازجة في كاسات وزجاجات كبيرة وأواني الشاي على الطريقة الإنجليزية كلها متوفرة.. ومراوح السقف في الكابيات والقمرات الصغيرة، وأَسّرة النوم في الدرجات الفخيمة والكماسرة بزيهم الصحراوي الأغبر وجيوبهم الكبيرة المنتفخة وأقلامه الصفراء وقبعاتهم السميكة ومفتشو القطار الذين يتفاوتون في الدرجات والرتب. «خ» دبّت الحياة ونسجت إلفة القطار حبالها بين الناس فتعارفوا وتوالفوا، صاروا أهلاً وأحباباً وتقاربت الدماء، والقطار من نيالا يتوقف بعد ثماني محطات في الضعين ينزل مغادر ويركب مسافر، وبعد ثماني محطات أو عشر يتوقف في بابنوسة ويصادف قطار واو، وبعد عشر محطات أو أقل يصل أبو زبد مروراً برجل الفولة، وبعد عشر محطات أخرى يصل «الرهد أبو دكنة مسكين ما سكنا يا تاجر يا سِيد مكنة..» وفي الرهد يتجه أغلب الركاب للاستحمام في خور أبوحبل، ويأكلون السمك ويشترون المنادين المنقوشة جانبها، المزركشة بالحرير التي تحمل كلمات من أغاني سودانية أو أحرفاً من اسم محبوب، وتتسابق فتيات المدينة في بيع المناديل والطواقي والفواكه خاصة قطاف جنائن عرديبة، والرهد محطة كبيرة مثل بابنوسة تغيّر فيها القاطرة وطاقم الرحلة من كماسرة وسائقين مفتشين وعمال وتملأ خزانات القطار بالماء، ثم ينطلق القطار نحو أم روابة وتندلتي حتى يصل كوستي فيرى أهل القطار النيل الأبيض القريب من المحطة يسبح بعضهم فيه وتُغسل الملابس ويتم كيِّها في رواكيب ومحلات على شاطئ النيل الأبيض في كوستي، وينطلق القطار مرة أخرى عبر كبري كوستي العريق نحو ربك ومنها إلى سنار مروراً بجبل موية وجبل دود حتى سنار التقاطع التي تذكر الناس بقصيدة قطار الغرب لمحمد المكي إبراهيم عن الباعة المتجولين في محطة سنار التقاطع: ملحاحون.. لهم آذان حين تصيخ تسمع رنة قرش في المريخ وينطلق القطار نحو مدني مروراً بقرى جنوب الجزيرة ومدنها، والغريب لا يتوقف في مدني كثيراً ويمر بالحصاحيصا وأبي عشر والمسيد حتى يصل في يومه الرابع للخرطوم.. ويكون قد أرهق السفر هذا القطار العريق.. الذي أوقف قسراً بفك «الباكم» وهو الرباط الهوائي عبر خرطوم خاص بين عربات القطار، عشرات المرات بسبب فقدان شخص فاته القطار أو سقوط مسافر من السطح مات تحت عجلات القطار.. «س» يصل قطار نيالا بعد أربعة أيام بلياليها، منهكاً.. متعباً، قاطعاً أكثر من ألف وأربعمائة كيلومتر وتزيد، حاملاً مئات أو ألوف المسافرين، مرَّ على مدن وقرى كثيرة وأرياف بعيدة وشق أراضي واسعة تقطنها قبائل وخلائق، ثقافاتهم مختلفة وطباعهم متنوعة، حاملاً معه من كل صنف ولون من الناس من كل المشارب والمنابت، وأترع سطحه بصناعة العصيدة على «مناقد» محلية اشتعلت بالحطب في حذر ومداراة، وربما شرب البعض حتى ارتوى من مريسة العيش المحمولة عليه.. وتماشطت النساء القادمات من الريف في الأيام الأخيرة فيه، وامتلأت رؤوسهن بالدهن، حتى يصلن وجهتهن وهن أكثر إشراقاً وبهاء. .... وعندما كان قطار TGV الفرنسي يخترق أرجاء مدينة فرانكفورت بألمانيا، نحو المحطة الرئيسة في المدينة، كان سيل الذكريات أو مواكبها كما في الفيلم الهندي القديم لدهري مندرا.. مواكب الذكريات، أحسست كم هو عظيم قطار نيالا القديم!، تنزل في القطارات الأوروبية وتركب بلا وداع ولا أحضان ولا استقبال، الناس يعبرون أمامك في تعجُّل وإسراع، وجوههم باردة وشاحبة بلا حرارة ولا لهفة ولا شجن. وكان صديقنا القديم عندما يسافر على قطار نيالا يخرج رأسه ليصافح وجهه الهواء والقطار يعبر فلوات وفيافي دارفور وكردفان وهو يغني لعثمان حسين بلحنه وصوته الشجي: عاهدتني أنك تكون مخلص في بعدي وحلفت يا ناسي تصون عهدك وعهدي لو كان صحابك خدعوك في لحظة بعدي أو غرتك كلمة حنان فنكرت ودي