وأعجب منه أن تدري بالأمس وفي حوالى الساعة الواحدة ظهراً كنت في وداع ابني أحمد في صالة المغادرة بمطار الخرطوم. خلق كثيرون اكتظت بهم الساحة الخارجية للصالة، وفي مدخل الصالة من ناحية الشمال لمحت ماكينة صراف آلي خاصة ببنك الخرطوم. رأيتها بأنوارها الموجوجة وكأنه تقول «علينا جاي.. علينا جاي.. أنا هنا والكريم بهوّنا». فتقدمت نحوها.. وأدخلت بطاقتي في مشط فم الماكينة. فإذا بها تلغف ما صنع بنك البركة .. وهلت الأنوار فابتهجنا. اللغة عربي .. إنجليزي؟ ضغطت على «عربي». إدخل الرقم السري.. أدخلت الرقم السري. وضغطت على «دخول» كما أمرت. ولكن كل تلك الحياة التي كانت توجوج فجأة همدت وأصبحت حديدة باردة صماء «لا تودي ولا تجيب» ولكن فجأة دون أسباب عادت لها الحياة ولكن بإشارة تقول. نأسف.. وسنعاود بدء التشغيل من جديد.. وفعلاً عادت الحياة لنا مترقبين أن تطل علينا «الجنيهات» ولكن في لؤم ظاهر وإصرار لا مبرر له رفض صراف بنك الخرطوم الآلي أن يصرف لي النقود وفي نفس الوقت استولى على بطاقتي البنكية وكلبشها بكلبش من حديد ومنع عنها الزيارة ومنع عنها الموية والنور، فاتصلت بالرقم المكتوب على ورقة التعليمات 0156661000 وجاءني الرد من موظفة في خدمة العملاء.. لتقول لي إن هذا يحدث في أرقى ماكينات الصرف الآلي. وإن عليَّ أن أتصل ببنكي ليتفاوض البنكان بشأن هذا الموضوع الذي ربما يستغرق يومين أو ثلاثة. وحاولت إفهامها أن ماكينتهم معطوبة ولا تعمل مع أنها تنادي «علينا جاي.. علينا جاي» وهذا يعني أن يقع شخص آخر في نفس الكرش التي ابتلعت بطاقتي، والتي نقول لها هل امتلأت فتقول هل من مزيد من البطاقات. فعليكم إرسال إشارة أو برمجة لتحذر الناس من أن الماكينة معطلة، ولكنها أصرت على أن ذلك ليس من اختصاصها. بنكي يقول لي: نحنا ما عندنا شغلة مع بنك الخرطوم. هم براهم بجو بلموا البطاقات وبودوها لبنك السودان الذي يقوم بفرزها وإخطارنا بذلك ونحن نخطر أصحابها. إن الأمر المهم في هذه المسألة هو أن تلك الماكينة المعطوبة موجودة في مدخل صالة المغادرة، فلو أراد «سين» مثلاً أن يصرف بعض القروش قبل أن يصعد إلى الطائرة وقامت تلك الماكينة المعطوبة بكلبشة بطاقته.. فماذا يفعل: هل يسافر ويترك بطاقته في كرش ما لا تحمد عقباه أم يؤجل سفره لحين استرداد عافيته وبطاقته، ومين عارف متى سيستلمها. أقول هذا لأني توقعت أن تكون هناك متابعة على مدار الساعة وبورديات والإبلاغ عن أي عطب في وقته. وهذا ما لم تفهمه مني الموظفة التي ردت عليَّ وتمسكت بموقفها الذي يطالبني بالاتصال بسلطات بنكي. إن هذا وجه من وجوه اللامبالاة و «السبهللية» وعدم المتابعة وترك الأمور على أعنتها.. حتى تنفرج من تلقاء نفسها. وهذا السلوك بكل أسف هو المسيطر علينا جميعاً إلا من رحم ربي. وقد جبلنا على «التسويف» باعتباره معلماً من المعالم الرئيسة المكونة لمزاجنا العام، وإننا غداً سنكون أكثر نشاطاً لإنجاز عمل اليوم «أمش وتعال بكرة» و«يا أخي الدنيا طارت؟» في جميع أنحاء العالم المتحضر كل أموالك يمكن أن تتحول إلى بطاقة تحمل رقماً.. وتختفي تلك الأموال التي كانت توضع في خزائن حديدية وتدفن في باطن الأرض أو خزائن البنوك.. ويختفي دفتر الشيكات وتبقى فقط هذه البطاقة التي تحمل رقماً سرياً.. لقد استفادت حركة الأموال من ثورة الاتصالات... وصارت المعاملات المالية تتم في أقصر وقت. في هذه الساعات الليلية في باريس مثلاً لا يوجد أي بنك يقدم خدماته للعملاء، ولكن هذه ليست معضلة فهناك مئات من الصرافات الإلكترونية منتشرة في كل مكان، وكل ما يتطلبه الأمر أن تكون ممن يحملون تلك البطاقات البنكية، فتحصل على ما تريده من أموال بكل سهولة. فهناك «ماكينات» تقضي الليل كله وهي تتحدث مع بعضها وتتناقل المعلومات بينها وبين العميل الذي يقف في انتظار النقود التي طلبها وهو لا يعرف ذلك. ولنختبر عن قرب هذه المعلومات. هذا سائح أمريكي يريد أن يسحب من حسابه في هذا الوقت المتأخر من الليل ما يعادل 300 دولار أي 1500 فرنك فرنسي، فيقوم الرجل بإدخال بطاقته ورقمه السري. وسرعان ما يبدأ الكمبيوتر فحص تلك البطاقة وتفريغ المعلومات المدونة عليها، ويكتشف أنها ليست من نوع البطاقات التي تخصهم، وفي هذه الحالة فهو لا يرجعها لصاحبها ومعها إشارة تقول «هذه البطاقة لا تخصنا» بل يتصل بكمبيوتر آخر في المركز الداخلي الأوروبي في بلجيكا الذي يؤكد أن تلك البطاقة ليست أوروبية فيبعث بالمعلومات عنها إلى المركز العالمي في ديترويت في أمريكيا. وبمضاهاة المعلومات يتأكد المركز العالمي في ديترويت أنها تخص بنكاً في واشنطن وهو يحوى حساب ذلك السائح الموجود حالياً في هذه الساعة الليلية في باريس، ويرسل تلك المعلومات إلى البنك المذكور الذي يبحث بدوره في دفاتره ويؤكد أن في حساب ذلك الرجل مبلغاً يغطي المبلغ المطلوب وهو 300 دولار، ويقوم بخصمه من حسابه مع رسوم خدمات تساوي دولاراً ونصف الدولار، ثم تتحرك الماكينة في باريس وتصرف لذلك الرجل المبلغ الذي طلبه. كل تلك العملية وكل تلك المحادثات التي دارت بين تلك «الماكينات» وحتى استلام الرجل المبلغ كاملاً تستغرق 15 ثانية. لقد انقضى العهد الذي يتجول فيه الشخص وهو يحمل أموالاً كثيرة، وهو يضع يده على جيوبه خوفاً من السرقة والنشل. وقبل أن تحدث هذه الثورة في عالم الاتصالات استحدثت الدوائر المالية البنكية ما يعرف بالشيكات السياحية التي حلت محل المال، ولكن يتوجب على من يحملها أن يدون أرقامها، حتى إذا سرقت منه أو ضاعت فإنه يبلغ السلطات البنكية التي ستعوضها له طالما أنه يعرف أرقامها، أما الآن فلم تعد هناك ضرورة لحمل تلك الشيكات السياحية، فهي بقياس التقنية الحديثة تعتبر متخلفة جداً، وقد آن الأوان لتوماس كوك أن يترجل بعد أن تربع على الشيكات السياحية زمناً طويلاً، وربما يأتي الوقت الذي يصبح فيه التعامل بتلك البطاقات البنكية هو الأمر السائد، وينسى الناس شكل الأوراق النقدية. وبالنسبة لأصحاب البقالات والمتاجر فإن جل معاملاتهم يمكن أن تتحول إلى حساباتهم في البنوك. وفي المدن الكبيرة مثل لندن ونيويورك وباريس وموسكو التي نشطت فيها عصابات المافيا أو المافيوسكي فأصبحت المتاجر ومحطات الخدمة والمطاعم تتعرض للسطو المسلح من وقت لآخر، ربما يأتي الوقت الذي يرفض فيه صاحب أي متجر أن يتسلم منك «كاشاً» ويفضل التعامل بالبطاقة البنكية. وهذا يحدث في ثوان. وهأنا يا سعادة مدير بنك الخرطوم عليَّ أن أنتظر يومين «إذا الله هوّن» لأحصل على بطاقتي. فأرجوكم مخلصاً ألا تكلبشوا مغترباً في ذلك الفخ المنصوب في مدخل صالة المغادرة فربما تنتهي إقامته!!