قبل عدة سنوات كنت منتظراً الزميل عبد الماجد عبد الحميد بمكاتب صحيفة (ألوان) الغراء، وهو قادم من منزله بالفتيحاب لنذهب سوياً إلى حيِّ المطار المدني للمشاركة في ليلة تأبين الشهيد الدكتور مجذوب الخليفة أحمد الذي مضى إلى الله في حادث حركة مشؤوم، وبينما كنت أنتظر فإذا به يهاتفني بصوت متعجل قائلاً: (يا رابح لقد تعرضت إلى حادث حركة) فأجبته مسرعاً: (يا ساتر وين) فقال: عند التقاطع بالقرب من (ألوان).. فذهبنا برفقة رجل المرور وصاحب الحافلة وهو الطرف الآخر في الحادث، وعند وصولنا إلى قسم شرطة مرور الخرطوم شمال وجدنا حفاوة كبيرة من الجميع ولم يعرف أحدهم لحظتها هويتنا بأننا صحفيون ولكنه كان نظاماً عاماً وتقديراً للجميع، وبعد لحظات من وصولنا لمركز الشرطة فقد اتصل بنا الصديق العقيد الدكتور حسن التجاني وكان وقتها مسؤولاً عن المكتب الصحفي للشرطة ويكتب عموده الراتب (وهج الكلم)، كانت مصادفة فقط وكانت مكالمته للتحية والمجاملة كعادته لا تمر لحظات إلاَّ ويسأل عنّا لكنه قد تفاجأ بأننا ضيوف في تلك الساعة مع شرطة المرور، ولم يمر وقت قصير حتى وجدناه إلى جوارنا حيث كان في ذات الحين ضابطاً مناوباً، ولم نستمتع بمساعدته لأن رجال الشرطة قد أكملوا المهمة بعد فتح البلاغ وتحميل (أبو إياد) مسؤولية الحادث لأنه قد قطع الطريق الرئيس من الجنوب للشمال، وكان الحق مع صاحب الحافلة التي تسير على الشارع الرئيس المسمى (شارع السيد عبد الرحمن)، سألت لحظتها عن الذي أعطى حق الطريق لأحد ليعبث ما يشاء والآخرون ينتظرونه حتى يكمل عبثه وإلا سيسجل له مخالفة التسبب في الحادث لسوء التقدير والقيادة بإهمال.. لم تكف أسئلتي لكنها عادت كسيرة لخاطري ولم تجد الإجابة المقنعة غير أن القانون هو الذي أعطى شركاء الطريق حق الملكية للبعض منهم وهو أحياناً ظلم للكثيرين من الذين سقطوا ضحاياه!!. ثقافة التبسيط التي درج السودانيون على تعميمها على كثير من الأشياء هي التي أضعفت المؤسسات وساهمت في ازدهار التحديات ولم يعد الناس يناقشون حتى القوانين والنظم لأغراض تطويرها ومواكبتها للصيغ الحياتية المتعددة التي شهدتها الحياة العامة في العالم وإلاَّ فسيظل الجميع من أهل السودان تحت دائرة الدولة المستوحدة التي تعيش على نظم محلية غير متطورة وآليات إدارية جامدة ومتكررة عائشة منذ الاستعمار وعلى مدى خمسين عاماً لم يتم تحديثها ولم تغشها عوامل التقدم والمواكبة!!. عند حدوث خطأ على الطريق والتسبب في حادث لماذا لا يُستجوب رجل المرور الذي كان موجوداً أثناء وقوع الحادث ليدلي بشهادته في التحقيق حول ملابسات الحادث؟!. لماذا تكون آلية الحكم والفصل هي فقط نصوص القانون، لماذا لا يتم البحث لإيجاد مخارج أخرى كالإهمال وسوء التقدير؟؟! ثم لماذا لا تخضع السيارة إلى مراجعة فنية لأن كثيرًا من أسباب الحوادث تكون نتيجة ضعف الكوابح وعدم استجابة السيارة المندفعة بقوة؟!!. الاحتمالات التي تؤدي للحوادث كثيرة منها الخلل الميكانيكي ثم الأخطاء البشرية كالإهمال وسوء التقدير أو حدوث خلل آلي غير متوقع.. بكل أسف ومع اجتهادات رجال المرور وتعاملهم الراقي مع الجمهور أحياناً تهزمهم الملاحظات ومن ذلك تضييق فرص النجاة للمتهمين من سيف الحكم بأحقية الطريق للفصل بين المتنازعين؟!. أقول كل هذا وقد تعرضت إلى حادث مساء الأربعاء المنصرم عند تقاطع شارع الموردة قبالة المجلس الوطني وكنت أسير من الشرق للغرب والحركة كانت منسابة جداً حيث عبرت سيارة أمامي وأخرى تعبر على الشارع بالشمال ورجل المرور جالس يراقب الشارع فإذا بآخر يسير بسرعة فائقة متخطياً عربتين تسيران بهدوء وكنت في نهاية الخروج من التقاطع فإذا بسيارته تصطدم على الباب الأيمن لسيارتي ويقع الحادث، وفي فترة وجيزة جداً حضر الجنود المجهولون من شباب شرطة المرور وحضرت عربتان على الفور في مظهر يوحي بيقظة ومسؤولية هذه الشريحة المهمة وهي (شرطة المرور) وتم سحب العربتين من موقع الحادث إلى مركز شرطة المرور دون أن يتم رسم كروكي للحادث لتحديد ما إذا كان قد وقع عند التقاطع أو خارجه، ولم يؤخذ في التحقيق برأي رجل المرور الذي كان موجوداً في الموقع وقتها وكنت أتخيل أن يذهب معنا بنفسه ليدلي بشهادته في محضر التحقيق والبلاغ أو أن يقوم بتدوين المعلومات الأساسية حول الحادث ولكن هذا لم يحدث، فقد قال المتحري وبكل سلاسة ويسر بأن الطريق حق الطرف الآخر، وقال لي وبكل أدب: يا أستاذ مع كامل تقديرنا للذي قيل فإننا في هذه الحالة سنحملك مسؤولية الحادث لأن الطريق ما حقك وكان الأفضل أن تقدر أنت الموقف بصورة سليمة، قال ذلك رغم أنه شخصياً وأثناء استجوابه لصاحب العربة الأخرى وعندما قال الشاب: (وهو يحكي الشارع حقي) قاطعه المتحري بقوله: (الطريق حقك انت مشتريهو) مما يدلل على عدم اقتناعه الشخصي ويدلل أيضاً إلى إشارات بأن سبلاً ومسارات أخرى كان يمكن أن تتاح ويؤخذ بها للوصول إلى الحقيقة والإنصاف!!. مع عميق تقديري للدور الكبير للشرطة وما قدمه منسوبوها لنا وللجميع في تلك الأمسية وظلوا يقدمونه على الدوام من سلوك مشرف وصورة مشرقة ممثلة في شخوص شباب مرور أم درمان محمد يوسف أحمد ورحمة اللَّه سليمان والمهندس النشط قذافي والشاب ياسر وغيرهم من الجنود المجهولين، فقد شهدنا بأنهم غاية في المسؤولية واحترام الناس ليس معنا نحن ولكن مع الكل في تلك اللحظات التي كنا بينهم.. لكن أحسب أن جميل هؤلاء الشباب لا يحمي البعض من أفراد الشرطة وتعاملهم بصورة خشنة مع المواطنين وبصرّة وجه وتكشيرة غير مبررة ومع كل تقديرنا ومحبتنا للشرطة بكل إداراتها وأقسامها لكن لا بد من نقد للقوانين الوضعية وضرورة مراجعتها، كما أن الشرطة ككيان محل تقدير لكن الممارسات والإجراءات هي الأخرى لا بد أن تراجَع لأجل تحصين جهاز البوليس والشرطة لأن لها ما لبقية المؤسسات وعليها ما عليها، وأفرادها بشر يخطئون ويصيبون وهي تستحق النقد والتقدير لكريم أفعالها.. وبمثل ما لكل حصان كبوة فهناك لأفراد الشرطة واجتهاداتهم كبوات ولذلك لا بد من تأهيلهم قانونياً بصورة كافية، لأن الجريمة متطورة وبالتالي الأحق بالقانون أن يتطور ومطبقوه كذلك مع تطور الجريمة، لأننا إذا جلسنا نقدس القوانين دون أن نُعمل صوت ومنهج التقويم والنقد سنجد أنفسنا في وضع لا نُحسد عليه حيث حماية الخطأ بسيف القانون دون الإفساح للعدل لتسوية النتوءات وإزالة ظلماء التحايل على القضاء والقانون!!.