محلية الجبلين تمثل صرة السودان وملتقى محط رحال قبائله المختلفة عند هذه النقطة الوسيطة في خصر شامخ يمثل قارة بأكملها وبكل تحدياتها وتعتبر جسراً للتواصل بين الشمال والجنوب وهي في الحقيقة جزء مهم من ملامح ولاية النيل الأبيض ومظهر من مظاهر ثرائها وتنوعها وعمقها عندما يتم استثمار التنوع من أجل تعميق التكامل والتعايش الإيجابي وهي تكون سبباً من أسباب التهديد والتمزق والضعف عندما يتم التعامل معها بسلبية وتخبط وعندما لا يتم استيعاب هذا التنوع في إطار يحقق التكامل ويحفظ الحقوق ويبسط الحريات وثمة تحديات كبرى يجب أن نعمل دوماً للتصدي لها تسديداً وتقويماً والحمد للَّه الذي جعل الإسلام دعوة ودولة وقرآناً وسلطاناً وحذر الأمة من اتباع الأهواء وحب الدنيا ونسيان الآخرة وموالاة الأعداء طمعاً في عزة فإن العزة للَّه ولرسوله والمؤمنون فالعاقل لا يستوحش طريق الهدى من قلة السالكين ولا يحزن وإن خزله الأقربون ووقفوا على الرصيف ذلك لأن التدافع بين الحق والباطل من سنن اللَّه الماضية إلى يوم الدين ليبلوا اللَّه المؤمنين حتى يعلم المجاهدين والصابرين فإن الغاية من إقامة الدولة في أدبنا الإسلامي ليس إشباعاً لشهوة السلطة والانغماس في ملذاتها والاستمتاع بزخرفها وبريقها وإنما هي وسيلة لأداء أمانة الاستخلاف في الأرض بخلق مجتمع الفضيلة الذي تتحقق فيه مقاصد الشرع وقيم الدين كإقامة العدل والمساواة بين الناس ودفع الضرر ومنع الظلم وتحقيق مصالح العباد وإصلاح شؤونهم تحقيقاً لأمر اللَّه (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) إلا أن الجبلين والليل الذي غمرها كل هذه السنين كان ليلاً أطول من دهر وأشد حلكاً من خافيتي غراب أسحم بسط جناحيه فوق أطرافها وقبض على قلبها بمخالب نسرية ضيق أنفاسها وأطبق على أجفانها فاستغرقت في سبات عميق ولأنها رقدت وطال رقادها فظنها الناس من الأموات وصلوا عليها وسار فوق رفاتها إلى حيث العراك والنزال حيث لا محل للعاجز الواهن فإذا كنا من أبنائها لا نزال نقف برعشة أمام ذلك الظلام الدامس الراسي فوق جبالها والمتلبِّد في بطون أوديتها ونتساءل إذا كان بعد هذا الظلام من نور أم تكون في ظلامها دون أن ترى النور ومن هذا المنطلق أود أن أوضح بجلاء الحقيقة كاملة الجبلين التي لا يعرفها الجميع فهي تأسست في عام (1904م) حينما جاء إليها المأمور البريطاني ومعه مجموعة من الأسرى الذين ساقوهم قسراً إلى المنطقة بعد استشهاد البطل التاريخي الخليفة عبد اللَّه الذي استشهد في قلب المعركة وهؤلاء هم أحفاده وأهله وعشيرته، وكانت مع المأمور وثيقة من الحاكم العام توضح المساحة وتبعية المنطقة وأول عمدة تم تنصيبه هو العمدة أحمد أمبدي الذي كان قائداً في الخرطوم وسميت عليه منطقة أم بدة على ذلك القائد الذي ساقوه قسراً مع أحفاد الخليفة إلى الجبلين وبعد مراجعتي للخريطة والمخطوطات القديمة وجدت الآتي تم توزيع ما تبقى من الأمراء والتابعين للخليفة في الجبلين على النحو التالي: المخاليف وهي تقع جنوب الجبلين ومكتوب عليها الجبارات والجبلين وأبو ضلوع والجراحة وفركت وكلها أسماء مواقع شهيرة في المهدية، وفي العام (1945م) لجأ إلى المنطقة من أجل المرعى والسكن بعض من قبيلة الصبحة فمنحهم العمدة أحمد أمبدي والسيد محمد الخليفة عبد اللَّه منطقة (أم كويكه مطر) بتعهد ووثيقة مكتوب عليها إن تستقل المنطقة للسكن والمرعى على أن لا يتعدى أفراد القبيلة على المساحة المحدودة لهم وحسب ما موضح في الخريطة أن حدود عمودية التعايشة من منطقة المخادة إلى منطقة مديسيس شمال قرية العدارة وأحفادهم محمد فرح وأحمد عجبه، وكان من مشايخ العمودية عمارة محمد بادي ومحمد علي أبو جقره، أما عمودية التعايشة فهي بعد موت العمدة أحمد أمبدي آلت إلى يوسف أحمد يوسف الزبير. ما قادني لهذه المقدمة هي توضيح بعض الحقائق التي حاول بعض من الناس تزييفها وكأنما التاريخ طوعاً لسلطتهم وسطوتهم تناسوا الوثائق والتاريخ تجاهلوا سكان المنطقة الحقيقيون وتنادوا من أجل القضاء عليهم مرة بتجميع الأقليات وتارة بضرب الإثنيات وأخرى بتسليط إدارات تغمط حقوق الناس كما فعلت مديرة الأراضي نوال الحليو في توزيع كل المساحات دونما أن تترك لأصحاب الأرض موطئ قدم وحتى الأراضي الزراعية تم توزيعها ورغم هذا الظلم لم يتوانَ طالبو السلطة من تهميش القبائل الوطنية التي لولاها لما تحرر السودان من الظلم والاستعمار البغيض وحينها أقول إن الأراضي التي سلمت لقبيلة التعايشة بوثيقة إنجليزية بعد معركة أم دبيكرات جاءت نوال لتوزعها إلى معارفها ومن يدفع وأخيراً الموقع الذي اختير للمنطقة الحرة حدثوني باللَّه عليكم أين يذهب إنسان المنطقة بعد أن سلبت منه السلطة والأرض وأصبح قابعاً في تلك الدوامة لا يعرف إلى أين المسار وهل هذا هو جزاء سمنار أم أن تكون الجبلين دارفور أخرى تدافع عن أرضها وعرضها وإنسانها الذي اعتراه التهميش والتجاوز. سألني أحد الوزراء أو نائب الرئيس في الحكومة الاتحادية عن الجبلين فقلت له محلية الجبلين أو الجبلين على وجه الخصوص ليست لديها تمثيل جغرافي أو نيابي أو تنفيذي ولا حتى تمثيل في أمانات المؤتمر الوطني ولا القطاعات والتنظيمات الأخرى لأن الأقليات استحوذت على ذلك بالصوت العالي وليس بالكثافة وليس بالانتماء ومن الضرورة بمكان التعرف على ما يقصد بمفهومي الهوية والتعايش لارتباطهما العضوي بما نهدف إلى تحقيقه وعلى الرغم من حداثة مفهوم الهوية وكثرة تداوله في المحافل العلمية المختلفة في العقود الأخيرة إلا أن العديد من تعريفاته تفصح عن اتساع هذا المفهوم الذي يحتضن كل ما هو تاريخي وثقافي ونفسي واجتماعي فلا غرو إذن أن تتعدد هذه التعريفات بتعدد المنطلقات التي يرتكز عليها المنظرون في هذا المجال بيد أننا نريد أن نقصر الحديث في هذا الموضوع على ثلاثة موضوعات أساسية لأسباب نذكرها أول هذه الموضوعات هو قضايانا الاقتصادية وتجيء أهمية القضايا الاقتصادية لأنها واحدة من أهم ظواهر أزمتنا الراهنة ولن يبلغ بنا الإدعاء مبلغه لنقول بأنا سنتحدث عن الاقتصاد حديث العارفين بفلسفته ومناهجه فما ضرنا إلا ايغال الواغلين فيما يعرفون وفيما لا يعرفون حديثنا عن الاقتصاد إذن سقتصر على سرد التجارب والإفصاح عن واقعنا بالأرقام ثم الإشارة إلى الانعكاسات السياسية لكل هذا وهو أمر يدخل في باب الاقتصاد السياسي لا الفلسفة الاقتصادية أو الزرع الاقتصادي وسيقود هذا بالحديث بالضرورة إلى شرح وإشارات وتنبيهات حول أساليب اتخاذ القرارات الاقتصادية وسوء الإدارة المالية وانعكاساتها على الدين العام وقضية انخفاض مستويات الإنتاج ودور القطاعات الاقتصادية ومشكلات القطاع الخاص والموضوع الثاني وهو ارتباط مباشر بالاقتصاد يتعلق بتنقية الحياة السياسية من الشوائب؛ فالنظام الذي بدأ حياته السياسية بمحاكم الشعب ضد ما اعتبرناه رموزاً للفساد لمطالب بأن يفرض على نفسه ضوابط أشد حزماً وأكثر تطهراً في الأداء من تلك التي افترض توفرها في أهل العهود السالفة دعوني أوضح أن بالجبلين «مائتي وثلاثون ونيف» معلم متطوع أحدهم أمضى «تسعة أعوام وآخرون خمسة» وما زالوا متطوعون هل من سبيل إلى استيعابهم في الخدمة المدنية والحاجة الماسة لهم في تربية النشء وسد الثغرة التعليمية أما الثالثة فالعائدون من الجنوب إلى الشمال منذ عامين ونيف ما زالوا في العراء وما زالت تلك الخيام والمشمعات المهترئة وآخرون في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء إضافة إلى الكم الهائل من العودة الأخيرة لنازحي الحروب فتضررت المنطقة من التلوث البيئي وانتقال الأمراض المعدية والفتاكة وكل هذا وذاك ضغوطاً على مواطني الجبلين الذين صبروا على كل ذلك ولكن أرى تحت الرماد وميض نار أخشى أن يكون لها ضرام فإذا اشتعلت فإنها تكون أكبر من دارفور ولن تنطفئ أبداً. أوجه رسالتي إلى الأخ المجاهد رئيس الجمهورية ونائبيه والأخ الكريم البروف الغندور على معالجة الآثار السالبة واحتقان الحق وهنالك استحقاقات لتلك القبيلة التي شاركت في تحرير السودان من الاستعمار ولها إرثها التاريخي فكيف تغمط حقوقها وتضيع في عهد الإنقاذ وتهمش وتسلب أرضها ويضيق الخناق عليها وثمة تساؤلات ينبغي الإجابة عنها: ما هو موقف العمدة سليمان عمدة قبيلة نزي في الحرب الدائرة في الجنوب الآن وهل ما زالت تبعيته للحركة الشعبية أم داعم لخط مشار؟ هل ما زال الشنبلي مصراً على نيل أرض القبيلة عنوة واقتداراً دون الرجوع إلى أصحاب الأرض؟ هل الجبلين انسلخت من المؤتمر الوطني بعد أن تم تعيين المعتمد السابق مسؤولاً للتنظيم؟