أن تقيد عصفوراً عن التحليق في الفضاء وتضعه بين الأقفاص أو ترمي بحرٍ يتجول بين القرى والأرياف وتضع على يديه سلاسل من حديد سيان.. وحينما وضع "ابن زيدون" في غياهب السجون قال قولته الشهيرة (إن طال في السجن إيداعي فلا عجب قد يودع حد الصارم الجفن) و"تيراب" الذي امتهن نهب الإبل كتقليد اجتماعي لا من أجل حاجة وكنز المال.. لكنه مثل "محمد ود الشهلمة" في بادية البطانة حينما تمت دعوته لاحتراف الزراعة والإقلاع عن نهب الإبل فقال: مادام أم قجة واردة وسادرة بالمسدار شنو الجابرني على حش الملودة الحار ابل البعشي مريتو قبل الجار نوديهن دورين غرب سنار وأم قجة هي الناقة.. ولكن النهاض أو النهاب يختار من أصحاب الإبل من يأكل مع زوجته ويترك جاره يتضوع من الجوع.. و"تيراب" في محبسه يطلق لروحه السمحة الحديث عن المغامرات في الأودية والأقاصي البعيدة.. ويحدث نفسه بالخروج من السجن حتى يعانق محبوبته.. ولكنه في بعض أشعاره المرسلة للرئيس "جعفر نميري" وهو في محنته بالسجن يقول: أنا أسأل الله الكريم عقبال يفرج عني نلقى مرادي في أبو رقبة المشية تتنى.. ما بين مصيره المحتوم وهو يصعد لمشنقة الإعدام ويجز عنقه بعد صدور حكم بإعدامه وبصيص الأمل في الحياة أن يخرج مرة أخرى لمعانقة محبوبته التي لديها (فلجة) في أسنانها.. ويقول (أنا سأل الكريم يفك (ساجوري) والساجور هو قيود وسلاسل الحديد ومن ريق أم فلج يا ربي يبقى فطوري!!) وتحضر الصوفية الراسخة في وجدان "تيراب" النهاض الهمباتي ويقول (إن شاء الكريم يفرج الضيق نبقى فقير والناس يزورو مسيدي!!) لم ييأس من رحمة الله الواسعة ويتمنى أن يتوب ويصبح فقهياً يعلم الطلاب علوم القرآن ويتهافت الناس إليه في مسيده!! ويبغض العرب الأبالة والبقارة السجون لأنهم أحرار في تنقلاتهم من فلاة لأخرى تبعاً لمناطق تكاثر العشب والمال، ولذلك ينعى "تيراب" حاله في السجن ويقول (سجن الحكومة قام لرماده)، ويرسل أشواقه إلى محبوبته "آمنة" التي هي مخيلته لحظة التمام اليومي في السجن.. ويقول: لو شفينا يا "آمنة" من ظهراً كبير قام المجوس لتمامنا.. ما بنموت لو اليوم بقى ما يومنا وما بنفذ حتى بنوت القبيلة تلومنا وفي محنته لن يهرب من السجن لا لشيء إلا خوفاً من أن يقال وسط القبيلة وتتحدث نساؤها عن "تيراب" الذي هرب من السجن حتى لو كان هذا الهروب يؤدي لإنقاذ حياته. بعد أن أصغى "جعفر نميري" لمناحات شاعر بادية كردفان "تيراب" وهو يمجد حكومة مايو ويصف "جعفر نميري" قائلاً: أخوي أبو عاج أبو كفة كم وكم أصلح رجال مختلفة وكم قطع رقاب خائنين وكم خلا الرجال في الدول داجين.. الإشارة للرجال الذين توسط "جعفر نميري" بينهم وأصلح حالهم هي الوساطات خاصة بين مصر والسعودية، حيث كان للخرطوم دور في المصالحات العربية.. أما الخائنون الذين قطع ال"نميري" أعناقهم فهم زمرة الشيوعيين وقادة الانقلاب العسكري ضد مايو.. أما الرجال الذين جعلهم ال"نميري" (داجين) أي لاجئين في الدول منهم "الشريف حسين الهندي" و"الصادق المهدي" وآخرون من رموز المعارضة لمايو، وفي نظر الشاعر "تيراب" أن حاكماً يستطيع أن يطرد بعض الساسة ويجعلهم لاجئين في الدول الخارجية لهو حاكم جدير بالتقدير في نظره. ويميز الشاعر "تيراب" بين المدنيين والعسكريين ويقول عن "جعفر نميري" إنه (أصلح حال رجال لبسوا المقص والتاج)، ويعني بذلك كبار الضباط وليس المدنيين، والعسكرية في مخيلة الفرسان أمثال "تيراب" ارتبطت بالفروسية والشجاعة وبمجد البقارة والأبالة العسكرية، وكذلك الشايقية في أقاصي الشمال مما جعل الفرسان يطرقون أبواب المؤسسة العسكرية التي تعتمد على الشجاعة والبطولة والفراسة وليست على الذكاء والتحصيل الأكاديمي.. وجاءت قوانين سبتمبر 1983م، كما يقول بعض الرواة ليتم إطلاق سراح مئات السجناء ومنهم "تيراب" كما يدعي البعض، ولكن الرواية التي ذكرها الرجل بنفسه للكاتب تقول إن "جعفر نميري" أمر بإطلاق سراحه شخصياً بعد أن أصغى لشريطه الذي بات من المأثورات الشعبية والغنائيات التي تدغدغ المشاعر وإلا لما حرص على تكريم "جعفر نميري" بنفسه حينما زار "جعفر نميري" بادية (دار حامد) بعد ذلك، وحضر "تيراب" تلك المناسبة بعد أن نحر ثلاثة من الإبل إكراماً للرئيس "نميري" وقال عنها: لما الدرويش ضرب نوباتو وجابو قصائد نحن نحرنا الجزر لزيارة الرئيس القائد أي كل ما عنده وحينما تكاثر الدراويش بملابسهم الخضراء يضربون على (النوبة) ويمدحون الرسول "صلى الله عليه وسلم" احتفاءً بقدوم الرئيس "جعفر نميري" اختار هو أن ينحر ثلاثة من النياق تكريماً لرجل أنقذه من حبل المشنقة وجعله يتنفس طبيعياً مرة أخرى.. وقد اتسمت حقبة "جعفر نميري" بقصص وحكايات بعضها من نسيج الخيال وأخرى واقعية، فالرؤساء لهم إشراقات خاصة وحسنات لا يعرف إلى من كان قريباً منهم.. ولكن تظل قصة "تيراب" و"جعفر نميري" مساحة من التسامر بمشاعر الصدق والوفاء لرجلين كلاهما اختارهما الله لجواره وبقيت ذكراهما خالدة.