{ لكل شعب أو مجموعة سكانية ملهم يحضها على التغيير والبناء والدفاع عن النفس، وكان "عبد الناصر" حلماً لأهل مصر، حارب بهم ومعهم.. خاطب عواطفهم.. وعقولهم.. خاضوا معه معاركه الخاسرة والرابحة ولكنهم أخيراً قتلوه.. وكان "جعفر نميري" متفقاً عليه يساراً ومختلفاً حوله يميناً في بواكير أيام حكمه، وفي أخريات أيامه اختلف معه اليمين واليسار ونفى نفسه في مصر وعاد لتستقبله قلة وحينما مات ودعه الجميع بالدعاء ربي اغفر له واسكنه مع الصديقين والشهداء.. كان "منعم منصور" ملهماً لحمر.. و"بابو نمر" قائداً للمسيرية والناظر "سومي" زعيماً للبقارة الرواوقة.. و"أبو سن" حكيم الشكرية و"منصور العجب".. وهباني.. ودقلل كلنوا نجوماً أضاءوا أطراف البلاد ووسطها في سنوات القحط والظلام.. ولا يزال المجتمع السوداني يخرج من صلبه من ينسج وشائج التلاقي.. ويمسح دموع الباكي ويجفف جراح المطعون!! أمس فقدت بلادنا حكيماً من حكمائها.. وبصيراً ينظر بقلبه قبل عينيه.. رجلاً علمته الحياة.. وخرجته في جامعة الشعب، ورفعته التجارب لمقامات القادة بالوعي والإدراك.. والنظرة الثاقبة.. هو رجل سمح كبير في مواقفه.. وجميل في سجيته.. إنه العمدة "عبد الله إدريس" زعيم قبيلة كنانة في ولاية جنوب كردفان، وحكيم من حكماء هذا الوطن.. وقائد مجتمعي عرف بالدهاء والفطنة وحسن المعشر.. وطيب القلب.. وصفاء النية والشجاعة والصرامة حينما تدلهم الخطوب.. وتفترق الدروب. و"عبد الله إدريس" عمدة كنانة الذي رحل بالأمس بقرية (الشقة) أولاد داوود بالقرب من الدبيبات عاصمة محلية القوز، من رجال الإدارة الأهلية الذين صنعوا مجدها.. رجل متفق على سلوكه.. وحكمته.. حافظ على وحدة المجتمع.. احتضن الوافدين إلى الدبيبات من كل السودان.. أسس لعمودية جمعت أطياف المجتمع.. لجأ إليه البرنو والفلاتة والهوسا.. والمعاليا .. والبرقو والبديرية وخزام، وكان الحضن الدافئ والقلب الذي يسع الجميع.. "عبد الله إدريس" كان عمدة لأكبر فخذ في الحوازمة عبد العال، وصاحب الرأي الراجح في مجلس الناظر "بقادي محمد حماد".. وحّد كنانة في حياته.. ووحّدهم محمولاً على آلة حدباء إلى دار غير داره هذه.. لم يجمع أهل كردفان مثلما أجمعوا على "عبد الله إدريس" الذي لم يعرف عنه يوماً أنه وقف بباب سلطان من أجل مغنم أو طلباً لمساعدة.. ظل عفيفاً.. نظيفاً.. غنياً في نفسه. في حياة العمدة "عبد الله إدريس" دروس وعبر.. حينما غشيت المنطقة موجة الجفاف ونقص الغذاء في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وجاءت الإغاثة من وراء البحار، أمر إخوانه وأبناءه ومن يعلم بمقدرته المالية، بعدم الاقتراب من الإغاثة وتوزيعها على الفقراء والمساكين فقط.. ويخرج من بيته ويطوف القرى راجلاً يسأل المواطنين، من وجده جائعاً أقرضه مالاً من جيبه أو جوالاً من الذرة حتى انقشعت سحابة الجوع. { رحل العمدة "عبد الله إدريس" لتبقى حياته كتاباً يقرأ.. وصفحات بيضاء تدرس.. وسيرة عطرة لرجل فذ.. وقلب رؤوف رحيم.. وشيخ تقي.. ورع.. يجمع ولا يفرق.. وقد انتقلت الإدارة والزعامة لابنه العمدة "سعد عبد الله إدريس" قبل عام من الآن، ولكن بعد رحيل الوالد "عبد الله" تفقد كردفان واحداً من رموزها وقادتها .. وتخسر الإدارة الأهلية (شعبة) كبيرة.. وفي يوم رحيلك لا نملك إلا أن نردد: رحل فارس كنانة المنّو الخصيم متورع يا كوع أبو حبل الساقي البلد ومترع رحم الله العمدة "عبد الله إدريس" وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء.. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).