يرن الهاتف في وقت متأخر من الليل، رقم غريب، يجاهد لكسر عزلتي المجيدة وصمتي عن مطالعة سُباب الأسافير، خمنت أنه هاكر عنيد، ولا يزال يرن، أخيراً رددت عليه، جاء الصوت أنثوياً، بلكنة شامية وافرة الملاحة، أستاذ عزمي أنا لوجين من التلفزيون اللبناني، بدي ادخلك على نشرة الأخبار لتعلق على ما يجري في السودان. شو أخباركم دخيل قلبي طمنونا عليكم؟ التقطت أنفاسي الشاردة، وطردت بقايا النعاس عن جفني، ثم قلت لها، بعد ترحاب مشوب بالدهشة، في الحقيقة أنا قلق على قلقكم علينا، الأمور على الأرض ليست بهذا السوء، نحن تعودنا على هذه المناظر، صحيح خدمات الأنترنت مقطوعة، لأسباب أمنية كما يبدو، ولكن شبكة التحويلات المصرفية "بنكك" تعمل، الأنترنت الأرضي متوفر لمن استطاع إليه سبيلا، وربما افتقدنا حفلات التنمر اليومية، على صفحات النجوم، عاد الزحام إلى وسط الخرطوم مرة أخرى، ومعظم طلمبات الوقود تعمل على مدار الساعة. ثمة اصطفاف على نوافذ المخابز التجارية دون غيرها، وتراجع أسعار السُكّر، لقد رأيت نهار اليوم شاحنات الدقيق وهى تفرغ حمولتها في كثير من المخازن، ميناء بورتسودان فتح بأمر ترك وأنصاره، كيلو الطماطم انخفض الى مائتي جنيه، وسلال البرتقال والبطيخ تعرض بأسعار مناسبة على الطرقات. الجسور كلها مفتوحة، طلاب الصف الثامن والشهادة الثانوية يتأهبون، على أمل عودة الدراسة يوم الأحد في كل الفصول تقريباً، يرنو زحام المساء على محلات أميرة وشاي الشروق وأقاشي ابن العم، هنالك إصابات وموت نتج عن المواجهات بين القوات الأمنية والمحتجين على ما أسموه بالانقلاب العسكري، الموسوم في تقرير الأممالمتحدة باستيلاء الجيش على السلطة، والموصوف في بيان البرهان بانه تصحيح لمسار الثورة، وهذا ما يجب أن نقلق عليه ونحزن، موت الشباب لغير هدفٍ واضح، لتبقى الحرية مقابل رصف الطرق وعدم تلويث الأجواء بدخان اللستاك المحروقة والغاز المسيل للدموع، ومن المفارقات السياسية أن الرفيق محمد ضياء الدين في المعتقل الى جوار الكيزان الذين عندما سُئل لماذا لا يتضامن معهم رد ساخراً "الحرية لمن يستحقها" دعيني انتهز هذه السانحة منادياً بالحرية للجميع. ودون تبكيت يا لوجين، لم تتأثر الحياة كثيراً بغياب حمدوك وطاقمه، صدقيني، ولا أظن أنه سيفيد البلد حال عودته، هو مجرد رمزية زائفة للحكم المدني، لا يملك عصا موسى، وأي شخص مدني أخر بربطة عنق أنيقة يمكن أن يؤدي المهمة على نحوٍ أكثر فعالية منه، لكنه مدخل جيد أيضاً للتنازع السياسي بين من ربحوا ومن فقدوا مناصبهم، وتحويل هذا التهافت على السُلطة إلى معركة مقدسة كما يريد لها جمهرة الناشطين والكوادر المنظمة، بينما لا توجد معركة تستحق أن تخاض إلى جانب أي طرف في هذا المسرح العبثي. المهم طمنينا عليكم، هل نامت بيروت اليوم دون تفجير؟ وماذا بعد المقاطعة الخليجية وهل سوف يستقيل جورج قرداحي أم سيربح من راهن عليه المليون؟ دعينا نتضامن مع بعضناً، كلانا يعاني من التدخلات الخارجية في شأننا الداخلي، وهذا مربط الأزمة، تدخل سافر يدس أنفه في كل صغيرة، ولا يريد لنا الخير، ويبدو أن قدرنا التواجد في تقاطع نيران حرب الكبار، والمصالح الاستراتيجية للمحاور والدول العظمى، علينا أن نختلف لوحدنا ونتحاور لوحدنا دون وسيط، ونعذر بعضنا فيما اختلفنا فيه، فالمكان يسع الجميع، النخلة والضريح ومكنة المياه والباخرة، كما قال الطيب صالح في "دومة ود حامد" ما رأيك؟ لوجين، هل تسمعينني، تيت، تيت، انقطع الهاتف.