[email protected] حدق العيون ونبض القلوب ليك يا وردي ، وردي الوطن ، وردي الإبداع، وردي الاسطورة الذي رحل أخيرا مخلفاً فراغ يصعب ملأه وأحزان يستحيل تجاوزها والتعافي منها قريباً لفنان شكل حضوره حالة طاغية ومجري رئيسي ولون أساسي علي جدارية الغناء السوداني، وتعتبر رحلة وردي الغنائية ملحمة بطولية خاض غمارها وانتصر فيها عبر امتلاكه لبذرة إبداع متفردة وصبر وجلد مكنه من صقلها وتطويرها وشخصية قوية استطاع من خلالها تجاوز كل العقبات ومكنته من المواجهة واتخاذ آراء يصعب الجهر بها في مجتمعنا السوداني الشيئ الذي جعل البعض يصفه بالغرور وآخرين يصفونه بالاعتداد بالنفس ولكنني اعتبرها جرأة علي مواجهة تقاليد اجتماعية تكره الصراحة و تضيق زرعا بالنقد و تحسبه تطاول وقلة احترام وتميل (للطبطبة) والتغطية علي الأخطاء بدلاً من فضحها و حسمها و المسارعة بعلاجها، إضافة الي ذلك الخوف من الجديد والتغيير باعتباره زعزعة لمسلمات تمثل ركائز أساسية للطمأنينة وفتح لأبوب المجهول الذي يفضي في اعتقاد الكثيرين لضياع المكتسبات الآنية حتي لو كانت غير مرضية. ثقة وردي في نفسه وموهبته مكنته في البداية من اتخاذ قرار يصعب اتخاذه في تلك الفترة بترك التدريس والوظيفة والمرتب الثابت والاحترام الذي يجده المعلم وفضل الاتجاه لحقل الغناء الأقل احترام واستقرار ولكنه يجد فيه نفسه ويعبر عن أشواقه وتطلعاته ويمثل مدخل يمكن من خلاله إخراج كل الشحنات والطاقات الإبداعية والجمالية والنقدية و ان يلعب دوره من خلال إحداث تغيير في بنية المجتمع التقليدية المكبلة للمواهب والانطلاق بها لمساحات أرحب من الحرية والتحرر والجمال والتقدم. وإبداع وردي يتعدى الموهبة التي يتمتع بها الي قدرته علي اختيار الشعراء والنصوص التي تكمل حالته الإبداعية القادرة علي هضم وتشكيل ودمج الشعر واللحن والأداء لتخرج عبر حنجرته روائع غنائية تحلق في فضاءات من الدهشة والمتعة والوعي والديمومة وتحدث تأثير جميل للمتلقي بصورة عابرة للتباينات العمرية والقبلية والطبقية والمجتمعية والمناطقية وحتي الدولية وهي تخاطب البقعة الجمالية المضيئة في الوجدان الإنساني مما جعل الجميع يلتفون حوله إلا من أبى. وعبر وردي وآخرين تحول الغناء من التعبير عن العاطفة الوجدانية فقط الي موقف وطني وفكري يتجاوز الانتماءات الضيقة سياسية /أيديولوجية/مناطقية الي حالة الغناء القضية لو جاز التعبير واثبت ان دور الفنان/الغناء يتعدى دور المتعة والترفيه الي دور تنويري تحريضي نضالي أي تحول الفنان من حالة معزولة ينحصر دورها في الغناء علي خشبة المسارح والحفلات والأعراس من اجل الفرجة والاستمتاع والمؤانسة واستلام العداد الي موقف يعبر عن هموم الوطن والمواطن أي الاندماج في الواقع بكل معاناته وعقباته وأحلامه وانتصاراته وانكساراته والسعي لتغييره للأحسن لان المواطن قبل المتعة والترفيه يحتاج للحرية والقوت والكرامة وهو الشئ الذي التفت إليه وردي مبكراً وانغمس فيه بكلياته وساعده في ذلك روحه الأبية ونفسه الحرة التي لا ترضى الصغائر بالإضافة لوجود مجموعة من الشعراء أشبعت له هذا الاستعداد الفطري عبر إنتاجها لنصوص عبرت عن هموم الواقع وعن عقبات وأمال المواطن وهي تنهل من قيم المجتمع وتراث وتاريخ وحضارة الوطن ولم تنسي إسهامات وتضحيات أبطالنا العظماء عبر تاريخنا المجيد. التقاء كل عناصر النجاح كما ذكرنا سابقا وهي الموهبة الفذة والأشعار المميزة والألحان العبقرية كل ذلك أنتج لنا هذه الظاهرة الغنائية المتفردة التي عطرت حياتنا وجمّلت أوقاتنا وأعطتنا قدرة علي الصمود وتجاوز القبح بكل تجلياته سياسيا وثقافيا واجتماعيا والاهم من ذلك أنها أضافت لنا مفخرة وطنية نضاهي بها الآخرين ورسالة نقلنا عبرها أجمل قيّمنا وإبداعنا ومواهبنا للآخر المختلف و لنصنع أرضية اشتراك مع الآخر عبر المشترك الوجداني والهم الإنساني والحس الجمالي. رحل وردي عبر حضوره المادي والجسدي إلا انه سيظل حي فينا عبر إبداعه الجميل ووطنيته المترعة بالأصالة والبصيرة والجرأة وإسهاماته الإنسانية النبيلة عبر الأجيال وأخيرا نسأل الله له الرحمة و المغفرة وان يجعله مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا وإنا لله وإنا إليه راجعون .