قبل أيام إلتقيت الأحسن بالصدفة في مدينة أمستردام، في البداية لم اتعرف عليه ، ولبثت مندهشا لفترة أتفرس أو في الحقيقة (أفترس) بعيوني هذا المغربي الذي يناديني بإسمي! كانت سنوات طويلة قد مرت منذ رأيته آخر مرة في منزل الصديق الراحل صدّيق عبد المحمود عليه رحمة الله ورضوانه. كان المرحوم صدّيق رجلا من خيار الناس، عاش هنا في هولندا عدة سنوات قبل أن يقرر فجأة العودة الى أرض الوطن وهو حلم راوده طويلا في إغترابه الاول في إحدى دول الخليج لكنه لدى عودته أواخر تسعينات القرن المنصرم لم يجد الوطن الذي طالما حلم به. كانت الانقاذ تدفع البلاد والعباد الى هاوية بلا قرار. قفز تنظيم الجبهة الاسلامية الى السلطة بليل منتهكا القانون بدعوى إستعادة هيبة الدولة. والحقيقة أنهم إستعادوا كل شئ عدا الدولة، تمرغوا في وحل مجد السلطة مثل خنزير سعيد، وتقلبوا في نعيم مال أهل السودان السائب وضربوه ضرب غرائب الإبل، وحرموا أصحاب الحق من كل حقوقهم ودفعوا بهم لهاوية التشرد والضياع. وجد الصديق الراحل صدّيق عبد المحمود نفسه يختار مرة اخرى درب الهجرة الصعب، قضى حوالي السبع سنوات في مهجره الجديد قبل أن يقرر فجأة العودة الى السودان، أتصل بي ليقول وداعا، ربما شعرت أنه سيكون الوداع الأخير فذهبت لوداعه رغم أنني كنت أسكن في منطقة بعيدة نسبيا. وجدت الأحسن أيضا جاء لوداعهم، كان يتصرف في البيت وكأنه في بيته، يستقبل الزوار ويحضر لهم القهوة وساعد في عمل البيت، قبل ذلك بسنوات كنا عشنا سويا مع مجموعة من الاصدقاء السودانيين في قرية جميلة شمال هولندا في مقاطعة فريزلاند. ورغم مرارة فراق الوطن بأهله الطيبين وعدم وضوح الرؤية بالنسبة للمستقبل لكنها كانت أيام جميلة بمعرفة أولئك الاصدقاء الاوفياء الذين توزعهم العالم بحثا عن لقمة العيش والملاذ الآمن. ينتمي الأحسن الى منطقة الصحراء التي تشهد نزاعا طال أمده. لم يكن للأحسن أية علاقات بالمجموعات العرقية التي تنتمي الى المغرب العربي. كل أصدقائه كانوا من السودانيين. كان يعيش بينهم مثله مثل أي سوداني، المرة الوحيدة التي رأيته فيها غاضبا قليلا، كانت حين تحدث أحد الأصدقاء عن الصحراء التي ينتمي الأحسن اليها وجدانيا. أذكر كان معنا صديق سوداني كسول رغم صغر سنه، لم يكن الطبخ من بين هواياته، حين يأتي دوره ليقوم بالطبخ حسب الجدول، كان يضيع وقتا طويلا في اقناع أحد اصدقائنا ليساعده في عمل شئ، وحين لا يجد من يساعده كان يضطر لعمل أية شئ، وهكذا كنا نتناول غداء يشبه كما يسميه أحد اصدقائنا أكل السجن، لا طعم له ولا رائحة وفي الغالب لا يقوم بأية مجهود سوى فتح علبة فول وتسخين العلبة نفسها ووضعها في المائدة دون أن يتكبد حتى مشقة إفراغ العلبة. نفذ صبر صديقنا أحمد يوما فقال ان صديقنا الكسول لا يجب ان يعيش في أي مكان سوى الصحراء، حيث لن يتعين عليه القيام بأية شئ! غضب الأحسن وأعلن: هذا لا يستطيع ان يعيش يوما واحدا في الصحراء، أنتم تجهلون الصحراء. والحقيقة أن صديقنا أحمد كان أبعد الناس عن الصحراء، فقد ولد وعاش في مدينة بورتسودان وعمل لفترة في البحر! علّق صديقنا أحمد بسرعة متسائلا: حتى في الصحراء لا يستطيع أن يعيش؟ فرد الأحسن: لا يستطيع العيش ولا ليوم واحد! فرد صديقنا أحمد: وماذا ننتظر اذن لنأخذه الى دار المسنين! في ذلك الزمان، كان منزل الصديق الراحل صديق عبد المحمود هو الملاذ الآمن لنا جميعا. تتجلى فيه وفي أسرته كل معالم الاصالة السودانية ومكارم الأخلاق التي سعت الانقاذ حثيثا لمحوها من الوجود، وإستبدالها بقيم سوقهم، حتى يتحقق لهم المواطن (الأليف) الذي حلموا به، ينشغل بمعاشه وهمومه ويترك لهم شأن الحكم الذي منحته لهم العناية الإلهية! لم تخل أيام الانتظار الطويلة تلك من أحداث مبهجة بقدوم أصدقاء جدد ومن شعور بالحزن لرحيل أصدقاء آخرين إختاروا المضي قدما في رحلة الشتات. أذكر قادما جديدا عاد الى أرض الوطن بعد رحلة للدراسة إستغرقت عدة سنوات فى احدى دول أوربا الشرقية وحين لم يجد في الوطن أية فرصة للعمل عاد مرة اخرى لركوب موجة الهجرة التي دفعت الانقاذ اليها الناس دفعا. بمثلما دفعت الشباب بعد سنوات الى الفلوات بحثا عن الذهب. حين استقبلنا القادم الجديد، وجدناه ينبض بنبض زمان الوطن الطيب، برائحة جروفه وليالي قمره الآفل في الظلمة الانقاذية. بدا عليه وقار علمي مهيب، سرعان ما تبدد بمجرد أن أرخى المساء سدوله، فطفق يطفئ ظمأه للوطن وللحبيبة بتعاطي المكروه عمدا، قبل أن يجبرنا على مشاركته الغناء: (بخت الراية مع المراية، بسيبك انت وأحب حمادة، حمادة تش!) أغنية هابطة في بلاد الفريز التي تموت من البرد أبقارها الفريزيان! صديق آخر سئم الغربة دون نهاية، عاد من الخليج ليستقر في الوطن وبعد أشهر لم يجد شيئا يتعرف عليه في الوطن، خرّب التتار الجدد كل شئ، فهاجر مرة أخرى، كان أحيانا يستذكر حبيبته التي حال بينه وبينها سنوات التغرب الطويلة في مشارق الأرض ومغاربها، شكى لي من نيران الشوق التي تستعر في كيانه للأهل والاصدقاء وأيام الطفولة، للحبيبة التي طفق يشتاق لها عذريا في نهارات الانتظار ، ولأن النهار في الصيف يكون طويلا جدا حتى أن الشمس المعلقة في المساء تبدو مثل طفل ضوئي وحيد تناساه أهله في الفضاء. بسبب طول النهار غلب على حبه وأشواقه الطابع العذري، لكنه كان احيانا حينما يأتي المساء أخيرا، أو يرخي سدوله (كما يقول الشعراء) كان يستعيد مع زجاجة شراب أشواق أخرى أكثر دفئا، فيشكو من خلال دموعه حرمانه الجسدي من خدن روحه المصون، وذات ليلة أفرط فيها في الشرب أعلن لي أن الشوق يدفعه للإنخراط ليلا في البكاء هو وعضوه الذكري! ضحكت من طرافة الصورة، حين ينخرط عضو ذكري في البكاء! أغاظه ضحكي وأعلن يقصدني بكلامه: (الزول القاطع الحركة دة ذاتو يكون ميتينو طالع) ضحكت وقلت له، أن يبكي همه، وأنني لا أعاني بعد سوى بعض الاشواق العذرية الشاملة التي لا تدعو للبكاء مع آخرين! عاد صدّيق الى السودان وذهب الأحسن للعيش في اسبانيا قبل أن يعود للإستقرار في الصحراء كما علمت منه، وحين كان مقيما في اسبانيا ذهب الى السودان لزيارة الاخ صديق وقضى معه عدة أيام هناك. يا للوفاء الذي أعجز حتى من كانوا يظنون أنفسهم أصحابه! حين رأيت الأحسن في مدينة أمستردام كانت سنوات قد مرت منذ فجعنا بخبر وفاة الصديق صدّيق عبد المحمود في حادث حركة مشئوم في احدى الطرق الانقاذية غير المستوفية بالطبع لشروط السلامة. اللهفة لاكتناز المال تحت أية لافتة لا تعطي أهل الانقاذ وقتا لعمل الشوارع التي تستوفي مواصفات السلامة المعمول بها في كل دول العالم. وكل من تتدحرج به السيارة في طرق الموت الى مصيره المحتوم هو ببساطة مات بسبب الأجل وليس الطريق او العجل! حتى وهم في جباياتهم يعمهون لا يستطيعون (قلع) المال لأسباب وجيهة، معروف ان من تتعطل عربته في الطريق عليه أن يسحبها خارج الطريق أو يضع علامات تنبئ عن وجود السيارة المتوقفة حتى لا يصطدم بها المارة، تلك اجراءات يعمل بها في العالم كله وفي شوارع مضاءة جيدا وبها كل إجراءات السلامة اللازمة. الاهمال هو في النهاية جريمة قتل. كيف لا تكون هناك عقوبة رادعة لمن يترك سيارة في الطريق دون علامات تنبيه؟ توفي الفنان نادر خضر بسبب مثل هذا الاهمال وتوفي كثيرون لنفس السبب المرحوم محمد إسماعيل الازهري والمرحوم عمر نور الدائم.التغاضي عن مثل هذا الاهمال هو مشاركة في الجرائم التي يروح ضحيتها الآلاف من أبناء وطننا. من قال أن حياة ورفاه المواطن السوداني تعني أحدا في الانقاذ؟ الأمر لا يعدو أن يكون إنقاذا من الحياة، فمن لم يمت بالحروب والأوبئة والجوع والكمد، مات بغيرها. تعددت الأسباب والانقاذ واحد! [email protected]