وفى الطريق إلى تبوك حيث العسرة و الحر الوقاد والهجيرة وقلة الماء والعطش و أبو ذر فوق ظهر بعيره الهزيل يتأخر عن الركب. والمسلمون سائرون وهو يستحث بعيره على السير للحاق بالركب الذي تأخر عنه. وإستشعر البعض تخلف أبو ذر وكانوا يقولون: يا رسول الله تخلف فلان، فيأمرهم النبي بأن لا ينشغلوا بهذا الأمر، وأن يدعوا كل شخص وشأنه ويقول لهم: (إن يك به خير فسيلحقه الله بكم). ومع نفاذ صبر أبي ذر بإستجداء دابته بالإسراع، نزل منها تاركا إياها في الصحراء ليقطع الطريق مشيا على قدميه ومهرولا في ذاك الحر والهجير والظمأ. فعندما تغلبه شدة العطش يتذكر انه قد سبق له أن شرب من الماء ما يكفيه لسنوات طويلة فينزاح عنه الظمأ حتى يلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يكون مع الخالفين. رأى الصحابة هالة تتقدم من بعيد والرسول يردد: (كن أبا ذر). وهتف المسلمون: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر إنه كما قلت يا رسول الله إنه أبو ذر. وكيف لا يكون هو وهم يتذكرون بينما كانوا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول لهم: (من منكم يوافيني على الحال الذي يفارقني عليه)، فهب أبو ذر من بينهم دون تلعثم أو جمجمة أو تلكأ: أنا يا رسول الله. أنا أوافيك- أنا سأبقى وفيا لك أسوة وقدوة بك، كما أنا الآن-. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لم يطلب منه برهانا ولا دليلا،: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء ذى لهجة أصدق و أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم). فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده). فهكذا أبو ذر أمة وحده، كما كان الأنبياء العظام إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمة. وقال الله تعالى على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام: ((والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا)) [مريم: 33]. لذلك كان هو أول من ألقى على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتحية الإسلام "السلام"، ملهما بها من رسالة شبيهه عيسى عليه الصلاة والسلام: "على الأرض السلام وبالناس المسرة". أبو ذر لا يتخلف بل سباق إلى الخيرات ولصحبة الحبيب. فقد نذر أبا ذر في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذره الذي ظل وفيا له إلى أن مات، ليستعد لملاقاته لدى الحوض. فكان حين سألهم رسول الله عن موافاته لهم على الحال التي هم عليها، كان قوته حينها صاعا من التمر فقال: فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى. وهو مستيقن بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة يوم تركته فيها). وهكذا كان أبو ذر عهد وصدق وذمة. لا يرى الصدق فضيلة خرساء بكماء، أن تكون صادقا في النوايا وبينك وبين نفسك ومع الله فقط، بل كان يرى الصدق كلمة مستبسلة في الذود عن الحق وسدانته، كلمة مستشهدة تصتك بها الأسماع، وتجرح بها كبرياء المستكبرين ويتحدى بها الطغاة والمتجبرين. لا يحتاج لأن يشهر سيفه لأن سيفه الصدق وهو مشهره أصلا وملازمه دوما. كيف وهو يقول عن ما رواه عنه الإمام أحمد أنه قال- أي أبا ذر-: بايعني حبيبي خمسا وعاهدني سبعا وأشهد الله على سبعا أن أقول الحق ولا أخشى في الله لومة لائم. فأول الحق جذوة الصدق. و توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان من الذين لم يبايعوا أبوبكر الصديق رضي الله عنه في بادئ الرأي. ولكن بعدها حين رأى كيف يسير الصديق رضي الله عنه بالأمة وقرت عينه بايعه إلى أن توفي. وكان هو نفسه أبو ذر في خلافة الفاروق رضي الله عنه. وقد قيل له بعد سنين: ألا تتخذ أرضا كما اتخذ أقرانك؟. فقال: وما أصنع بأن أكون أميرا، وإنما يكفينى كل يوم شربة من ماء أو لبن، وفى الجمعة قفيز من قمح. ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من ولي من أمور المسلمين- وقيل تولى أمر واحد فقط منهم- شيئا أتي به يوم القيامة حتى يقف على جسر جهنم فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيها سبعين خريفا). فهذه الإمارة لا يأخذها إلا من من سلت الله أنفه (أي جدعها) وألصق خده وأنفه في الرغام. وهاجر إلى الشام في سبيل الله. وعندما قدم الفاروق رآه هناك فإجتذبه وصافحه وإعتصر يده بعلمه بحب رسول الله له فعسى أن يذهب معه. فنزع أبو ذر يده من عمر بن الخطاب قائلا له: خلي عني يا "قفل الفتنة". فقال له عمر وما ذاك. قال له لقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما عليك قائلا: (لا خوف عليكم ما دام هذا فيكم). ثم كان عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي شهد إضطرابات كثيرة، و أبو ذر على حاله، الكل يتعتع ويجمجم ويدس ويوارب الحقيقية ويخشى الحق. دنيا أقبلت على الناس و مصالح الكل يريدها، إلا أبو ذر يظل كما هو المتمرد الثائر الذي يتحدث دوما ولا يفتر حتى قال الإمام علي بن أبى طالب حينها: "لم يبق اليوم أحد لا يبالى فى الله لومة لائم غير أبى ذر، ولا نفسى". ثم ضرب بيده على صدره ليؤكد (ولا نفسى)، أي ولا حتى أنا حيدر الكرار. [email protected]